لم يتوقف الجدل التحليلي في صحافة العالم، وفي مراكز الدراسات السياسية، حول موضوع يلخصه هذا السؤال: هل تعود الحرب الباردة من جديد؟
جاءت إثارة هذا السؤال في أعقاب أزمة أوكرانيا، والتي خلقت تحديات سياسية جديدة أمام الولايات المتحدة.
البعض استبعد تماماً العودة إلى عصر الحرب الباردة، اعتماداً على أن الظروف الدولية مختلفة، وليست مشابهة للأوضاع التي أفرزت صراع الحرب الباردة الطويلة، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وكذلك استناداً إلى ما أعلنه الرئيس أوباما في يوليو/تموز 2014، من أن تلك ليست حرباً باردة جديدة.. وإنما هي مشكلة محددة، سببها عدم رغبة موسكو في الاعتراف بأن أوكرانيا يمكنها اختيار طريقها.
وحسب هذا التعبير، كان هناك اتفاق في تحليل خطابه، بأن أوباما يسعى لإيجاد توازن بين وسائل الرد على تصرفات موسكو، وفي نفس الوقت الحرص على تجنب مواجهة شاملة مع روسيا.
هناك أيضاً من يتوقعون ألا يستمر هذا السعي طويلاً، فسوف تأتي لحظة يفسح فيها المجال لإشعال حرب باردة جديدة. ويعتمد أصحاب هذا الرأي على قيام مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ، من الحزبين، بنشر خطاب يدعو أوباما إلى تسليح أوكرانيا، وفرض مزيد من العقوبات على روسيا. بالإضافة إلى عودة لغة الردع، والاحتواء، والعزلة الاقتصادية، إلى الخطاب السياسي الأمريكي. وكذلك وجود قوى سياسية خارج إدارة أوباما، تضغط على الرئيس للدخول في حرب باردة جديدة، يحاول هو تجنبها.
وهكذا تجد الحكومة نفسها بين نقيضين، أحدهما يدعو للمحافظة على التعاون مع الروس في عدد من المشكلات الدولية، والإبقاء في نفس الوقت على الضغوط على روسيا، للتخفيف من موقفها تجاه أوكرانيا، والآخر يضغط في اتجاه التصعيد في العقوبات تجاه روسيا.
إن النزعة لحرب باردة جديدة، تمثل حالياً توجهاً خطراً. فالوقت الحالي دولياً معبأ بتحديات للجميع، في مقدمتها نشر الإرهاب، وإشاعة عدم الاستقرار، وهو أمر يحتاج إلى نظرة استراتيجية موحدة، أو متقاربة.
كما أن الفترة الحالية، تتسم بعدم اليقين استراتيجياً، وبالتالي فإن العودة إلى الحرب الباردة، ستبعث من جديد نظام الحرب بالوكالة التي انتشرت في إطار الصراع الأمريكي -السوفييتي في الخمسينات والستينات. ونتيجة هذا أن تتحمل القوى الكبرى أعباء مالية، لم تعد ظروفها الاقتصادية تتحملها.
ولا يغيب عن مراكز سياسة أمريكية وأوروبية، ما تراه من احتياج الولايات المتحدة لتعاون روسيا معها، في التصرف تجاه عدد من أولويات سياستها الخارجية، مثل البرنامج النووي الإيراني – والحرب في سوريا – وعملية السلام في الشرق الأوسط – والاستقرار في أفغانستان ومواجهة الإرهاب.
وتستشهد هذه المراكز ببعض الأمثلة منها دعوة إدارة أوباما، لألكسندر بورتنيكوف مدير المباحث الجنائية الروسية FSBفي فبراير/شباط 2014، لحضور مؤتمر على المستوى في واشنطن، لمناقشة سياسات مواجهة التطرف والعنف. باعتبار هذه الدعوة مؤشر على الاحتياج للتعاون في مواجهة أخطار استراتيجية عالمية.
لكن السؤال المطروح هو: هل تستطيع الولايات المتحدة، وروسيا، تجنب التصعيد في أوكرانيا، والمحافظة على التعاون في المشكلات العالمية الأخرى؟.
هناك من يضغط على أوباما للتشدد في سياسته إزاء روسيا. وعلى الناحية الأخرى يتعرض المسؤولون الروس، للانتقاد بأنهم متراخون في مواجهة الولايات المتحدة، وأنها مستمرة في التعاون معها في مشكلات عالمية، مثل الرقابة على التسلح.
ولا يخفي المسؤولون على الجانبين، اقتناعهم بشأن عدم القدرة على مقاومة الربط بين النزاع في أوكرانيا، وقضايا أخرى تتداخل فيها المصالح الثنائية.
إن جزءاً مهماً من مشكلة أوباما، أن هناك قوى عديدة أمريكية، ذات نفوذ على صناعة قرار السياسة الخارجية بحكم الدستور، وأن بعض هذه القوى تحرضه على التصعيد، بينما تدعوه من ناحية أخرى البيروقراطية الحكومية، للحرص على الربط بين سياسته تجاه أوكرانيا، و المصالح التي يحتاج فيها لتعاون روسيا، تحسباً لإشعال حرب باردة جديدة.
ويدرك الرافضون لفكرة الحرب الباردة، أنها سوف تؤدي إلى مزيد من تضخم المؤسسة الصناعية العسكرية، التي تستفيد من حجم الإنفاق العسكري الأمريكي والبالغ حالياً حوالي 18 تريليون دولار في عام 2014، وهو رقم قابل للزيادة في حالة التصعيد نحو الحرب الباردة. وهذه المبالغ يتحملها المواطن الأمريكي الذي كان يأمل في خفض هذا الإنفاق، بعد مرور 25 سنة على نهاية الحرب الباردة. كما أن بعث الحرب الباردة من جديد، سوف يثير نزاعات إقليمية، ويوسع من نطاق الحروب بالوكالة، ويؤدي إلى زعزعة الاستقرار في أوربا نفسها.
كثيرون ممن شاركوا في هذا الجدل يلفت النظر من بينهم، البروفيسور صمويل شارب – في دراسته القيمة بمطبوعة سيرفايفل Syrvivalوهو الخبير المختص بشؤون روسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، والذي قال: إن على الغرب الاعتراف بأن روسيا لها دور خاص في دول جوارها. وأن يؤكد الغرب عدم توسيع نشاط حلف الأطلنطي في هذه المناطق. وربما يكون ذلك بمثابة جرعة دواء مر، يبتلعها الرئيس الأمريكي، لكن البديل هو حرب باردة جديدة، ستكون هي الأسوأ للولايات المتحدة، وروسيا، وأوربا، وللجميع بما في ذلك أوكرانيا. ولعل الوقت لا يزال متاحاً للبدء في مفاوضات مع موسكو.
عاطف الغمري
صحيفة الخليج الإماراتية