“عقيدة باول” ما تزال حية

“عقيدة باول” ما تزال حية

يبدو أن أحد أكثر عناصر إرث باول ديمومة سوف يكون تبنياً متجدداً لفلسفته التوجيهية. وجاء قرار الرئيس جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان لأن وزارة الدفاع، كما اشتكى، لم تستطع أن تقدم له استراتيجية واضحة للنجاح. وفي محاولة لاستعادة مصداقيتهم أمام أسيادهم المدنيين، سوف يعود المسؤولون العسكريون الأميركيون بلا شك إلى ضبط النفس على طريقة باول، كما اقترح عدد من المعلقين في الأشهر الأخيرة.

* *
في البداية، كان من المتوقع أن يكون وزير الخارجية، كولن باول، النجم الأبرز في إدارة جورج دبليو بوش. وبالحكم من استطلاعات الرأي، كان رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق والاستراتيجي المنتصر في حرب الخليج أكثر شعبية من بوش، وربما كان يمكن أن يصبح الرئيس هو نفسه. كان بإمكان باول أن يُسكت غرفة بمجرد أن يسعل لتنظيف حلقه -وكان يقدم وجهة النظر الحكيمة في كل اجتماع لمجلس الوزراء.
كان باول، الذي توفي يوم الاثنين الماضي عن عمر ناهز 84 عامًا، وريثًا لتقليد ثمين من النزعة الدولانية البراغماتية التي تعود وراءً في الزمن إلى بطله، جورج سي مارشال، وهو جنرال سابق آخر أصبح أكبر دبلوماسي أميركي؛ وهنري ستيمسون (وزير الخارجية في عهد هربرت هوفر ووزير الحرب في عهد فرانكلين روزفلت)؛ ودين أتشيسون، وزير خارجية هاري ترومان. وأضاف باول زخارفه الإستراتيجية إلى هذا التقليد. وكان حجر زاوية في ما أصبح يُعرف باسم “عقيدة باول”، هو أن قرار استخدام القوة العسكرية الأميركية يجب أن يكون صارماً إلى أقصى الحدود. يجب أن تتم تعبئة القوات بأعداد طاغية، في مواقف يكون فيها النصر شبه مؤكد، وحيث تكون استراتيجية الخروج واضحة. كما اعتقد باول أيضًا أن تأمين دعم حلفاء الولايات المتحدة سيكون بالغ الأهمية.
وكما نعلم، فإن هذه الرؤية لم تصبح وجهة نظر -أو سياسة- إدارة بوش. وقد ذهب بوش في الاتجاه المعاكس تقريبًا، حيث قام بغزو العراق من جانب واحد بعد 11 أيلول (سبتمبر) بناءً على أدلة ملفقة (كانت أسوأ لحظة لباول في الحياة العامة هي تقديم هذه الأدلة للأمم المتحدة في العام 2003)، مع تخطيط غير كافٍ وعدم وجود استراتيجية للخروج في الأفق. وكان مبدأ باول غائبا أيضا عن 20 عاما من التعثر والتخويض في مستنقع أفغانستان، حيث لم يكن هناك أي إحساس بما قد يبدو عليه النصر.
ومع ذلك، يبدو أن أحد أكثر عناصر إرث باول ديمومة سوف يكون تبنياً متجدداً لفلسفته التوجيهية. وجاء قرار الرئيس جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان لأن وزارة الدفاع، كما اشتكى، لم تستطع أن تقدم له استراتيجية واضحة للنجاح. وفي محاولة لاستعادة مصداقيتهم أمام أسيادهم المدنيين، سوف يعود المسؤولون العسكريون الأميركيون بلا شك إلى ضبط النفس على طريقة باول، كما اقترح عدد من المعلقين في الأشهر الأخيرة.
في مقال له نُشر في صحيفة “ذا هيل” في آب (أغسطس)، كتب ريتشارد جيه بيرس جونيور، الباحث في جامعة جورج واشنطن: “كان بإمكاننا تجنب إنفاق أكثر من تريليوني دولار، وفقدان أرواح أكثر من 2300 جندي أميركي، فضلاً عن الكارثة المأساوية والمذلة التي تتكشف في أفغانستان لو أننا طبقنا مبدأ باول قبل عشرين عامًا”.
ووفقًا لسيث جونز، الخبير العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن معظم عناصر عقيدة باول “يبدو أنها ذات صلة اليوم، بما في ذلك قائمة الأسئلة التي يحتاج أي صانع سياسة في الولايات المتحدة إلى طرحها قبل اتخاذ قرار بشأن عمل عسكري”. ومع ذلك، قال جونز إن إحياء عقيدة باول لن يكون كافيا في حد ذاته. وأضاف: “إن القواعد تخبرنا بما إذا كنا سنستخدم القوة أم لا، وليس ما يحدث حقاً في مسار الصراع المعنيّ”.
وُلدت عقيدة باول جزئيا في تجربة باول في فيتنام. وكان قد ذهب إلى هناك في جولتين. وكما كتب في مذكراته في العام 1995، فإن “العديد من أبناء جيلي، النقباء المحترفين، والرائدين، والملازمين المحنكين في تلك الحرب، تعهدوا بأنه عندما يجيء دورنا لاتخاذ القرار، فإننا لن نذعن بهدوء لخوض حرب فاترة لأسباب نصف ناضجة لا يستطع الشعب الأميركي أن يفهمها أو يدعمها”.
في الواقع، كان من المدهش خلال فترة التجييش التي سبقت غزو العراق في العام 2003 أن الجدل حول ما إذا كان ينبغي شن حرب “استباقية” كان يميل إلى الانهيار بين رؤية أولئك الذين قاتلوا في فيتنام وأولئك الذين لم يقاتلوا. ومن بين أكبر المشككين كان باول؛ والجنرال المتقاعد من مشاة البحرية أنطوني زيني، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأميركية؛ والسيناتور في ذلك الحين، تشاك هاغل، وهو محارب قديم آخر في فيتنام. وكما قال زيني، متحدثًا نيابة عن العديد من زملائه السابقين من الضباط العسكريين، في خطاب ألقاه في آب (أغسطس) 2002: “قد يكون من المثير للاهتمام التساؤل: لماذا يرى كل الجنرالات الأمر بالطريقة نفسها، وكل أولئك الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة والعازمون بعناد على الذهاب إلى الحرب، ينظرون إلى الأمر بطريقة مختلفة”. ولكن، بينما كانت إدارة بوش تدفع قدُماً بخططها الخاصة بحرب العراق، سارعت وزارة الدفاع إلى تجاهل الدروس المستفادة من فيتنام.
صحيح أن أياً من صقور إدارة بوش الذين دفعوا بقوة من أجل حرب العراق لم يكن قد خدم في فيتنام. كان بوش قد خدم في الحرس الوطني في الوطن، وحصل نائب الرئيس، ديك تشيني، على خمسة تأجيلات، وأدى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مهمة في البحرية في الخمسينيات، قبل حرب فيتنام. وكان الهدف النهائي لهؤلاء هو ترك السحابة التي صنعتها حرب فيتنام وراءهم، كما أوضح رامسفيلد خلال جلسات استماع المصادقة على تعيينه في أوائل العام 2001.
قال رامسفيلد: “نريد أن نكون أقوياء جدًا ومتطلعين جدًا إلى الأمام بحيث يكون واضحاً للآخرين أنه لا ينبغي عليهم إلحاق الضرر بجيرانهم عندما يؤثر ذلك على مصالحنا، ولا ينبغي أن يفعلوا أشياء تشكل تهديدات ومخاطر علينا”. وقال وزير الخارجية السابق، هنري كيسنجر، لمجلة “نيوزويك” في العام 2002: “إنني أحاول… أن أتغلب على مواقف جيل فيتنام التي كانت تركز على النواقص والمحدوديات الأميركية”.
ومع ذلك، يبدو أننا نعود الآن إلى طريقة باول التي هي في حد ذاتها جزء من دورة تاريخية. كانت غطرسة الحرب الباردة قد قادت الولايات المتحدة إلى حرب فيتنام، وأدى هذا بدوره إلى جيل من التردد لدى صناع السياسة المعاقَبين المقيّدين بشأن استخدام ما تسمى بالقوة الصلبة الأميركية. وبرز حرص إدارة بوش على إعادة تأكيد تلك القوة -ورفض رؤية باول- إلى حد كبير كتصحيح مأمول لذلك النقد الذاتي.
واليوم، يجد جيل جديد من صانعي السياسة الأميركيين أنفسهم معاقبين مرة أخرى، ليس بسبب “متلازمة فيتنام”، وإنما بسبب ما يمكن تسميته “متلازمة العراق” -وهو مصطلح يشمل المستنقعين التوأمين لإيران وأفغانستان.
ربما يتم تذكر باول أكثر من أي شيء آخر بتحذيره من الفوضى قبل أن تحدث. وكان تلخيصه الأكثر إيجازًا لـ”عقيدة باول” هو ما أسماه قاعدة “مخزن الفخار”، حيث “ما تكسره، تمتلكه”.

الغد