بعد أن ضمّت روسيا القرم إلى أراضيها عام 2014، تعاظم وجودها العسكري بمنطقة شمال البحر الأسود. وقوبل ذلك باتهامات ومخاوف أوكرانية وأوروبية متكررة، ترى أن هذا يشكل تهديدا حقيقيا لأمنها، ولمصالح الدول الإقليمية والعالمية في المنطقة.
تبرر موسكو هذا الوجود بالأسباب ذاتها أيضا، معتبرة أن “النوايا التوسعية” لحلف شمال الأطلسي “الناتو” بأراضي أوكرانيا والبحر الأسود تهديد خطير لأمن حدودها وأراضيها، بما في ذلك القرم الذي تعتبره أوكرانيا والغرب أرضا محتلة.
اقرأ أيضا
بوتين: روسيا تتجه نحو رفع طالبان من قائمة الجماعات الإرهابية
واشنطن بوست: أميركا بحاجة إلى مراجعة واقعية للأسلحة الأسرع من الصوت والتحدث مع الصين وروسيا
خططوا لاغتيال معارضين شيشانيين.. حبس 6 أجانب في تركيا بتهمة التجسس لصالح روسيا
كورونا.. عطلة في روسيا لمواجهة موجة وبائية جديدة وبريطانيا تستعد للأسوأ
توتر متصاعد بين روسيا وأوكرانيا ودول الغرب بالبحر الأسود (وكالات)
مناورات كثيفة
وبعد ضم روسيا للقرم، ازدادت حدة التوتر تدريجيا في حوض البحر الأسود على مدار السنوات الماضية، وتجلى ذلك في ازدياد عدد وحجم المناورات العسكرية البحرية، سواء الروسية أو الأوكرانية الغربية المشتركة.
ووصل هذه التوتر أوجه في أبريل/نيسان الماضي، عندما حشدت موسكو أعدادا ضخمة من القوات والآليات والسفن على حدود أوكرانيا البرية شرقا، والبرية البحرية جنوبا، فضج العالم بالحديث عن “اجتياح وشيك أو محتمل” قبل أن تعلن روسيا انتهاء “مناورات واسعة” وتقلل من مخاوف الغرب.
وعمليا، لم تهدأ مياه هذا البحر منذ ذلك الحين، فقد شهدت مناورات “نسيم البحر 2021” الضخمة، ومناورات “دايف 2021” المشتركة بين أوكرانيا الناتو، بمشاركة آلاف الجنود وعشرات السفن، وبالتزامن مع مناورات بحرية عدة أطلقتها روسيا بالمقابل.
تشغيل الفيديو
حوادث متكررة
وشهدت السنوات والشهور والأسابيع الماضية حوادث متكررة في حوض البحر الأسود وبحر آزوف، كان أبرزها اعتراض روسيا مدمرة “ديفندر” البريطانية في يونيو/حزيران الماضي. وكان آخرها “مرافقة” مقاتلتين روسيتين لقاذفتي قنابل أميركيتين فوق البحر، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع الروسية قبل أيام.
وغير بعيد، يذكر العالم الضجة والمخاوف التي أثارها اعتراض روسيا 3 سفن تابعة للقوات الأوكرانية قرب مضيق كيرتش في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وأسر جميع بحارتها البالغ عددهم 25.
مناورات بحرية أميركية أوكرانية مشتركة بالبحر الأسود خلال فبراير/شباط 2021 (وكالات)
بِركة روسية
تواجه روسيا اتهامات، من كل من أوكرانيا وتركيا والولايات المتحدة ودول أوروبا وحلف الناتو، بالسعي لتحويل البحر الأسود إلى بِركة خاصة، لاسيما بعد أن قررت موسكو، في أبريل/نيسان الماضي، إغلاق أجزاء من مياه وأجواء البحر أمام حركة السفن والطائرات الأجنبية.
يقول إيليا كوسا خبير العلاقات الدولية بالمعهد الأوكراني للمستقبل إن روسيا تسعى إلى إقصاء وجود قوات كبيرة للناتو قرب حدودها “بغض النظر عن تطابق وسائلها مع القوانين الدولية”.
ويضيف للجزيرة نت “عمليا، يتحول البحر إلى منطقة نفوذ روسية، لأن حجم الأسطول تضاعف منذ 2014، وتم دعمه بغواصات وفرقاطات جديدة، مجهزة بصواريخ بعيدة المدى”.
وفي سياق متصل، يعتقد ميخايلو هونتشار رئيس مركز الدراسات العالمية بأوكرانيا أن روسيا تخطط لحصار الساحل الأوكراني، وإخراج الناتو من منطقة البحر الأسود.
ويقول هونتشار “رهانها سيكون على أن الحلف لن يسعى لمفاقمة الوضع معها، كما كان من قبل” في إشارة لميول دول غربية نحو إعادة تطبيع العلاقات مع موسكو.
سفن الناتو تجري مناورات عسكرية مع القوات الأوكرانية بالبحر الأسود (وكالات).
لمن القوة؟
في ظل هذا الواقع، يقارن محللون كثر بين حجم القوة الروسية والأطلسية في البحر الأسود، ويكادون يجمعون على أن القوة فيه -حاليا- لموسكو.
ولذلك، لا يتفاءل المحلل العسكري الأميركي مارك إيبيسكوبوس بقدرة دول الناتو على مواجهة روسيا بالبحر الأسود، في حال اندلاع صدام عسكري بين الجانبين في المنطقة.
وكتب إيبيسكوبوس بمجلة (The National Interest) أن روسيا عززت أسطولها وخاصة في قاعدة سيفاستوبل “بينما قوات الناتو بالمنطقة لا تستطيع الاعتماد على دعم محلي واسع النطاق” مشيرا إلى أن أوكرانيا ورومانيا وجورجيا يمكن أن تتيح لسفن الناتو الوصول لموانئها، لكنها تفتقر القدرات البحرية اللازمة لتقديم مساهمات عسكرية كبيرة.
تشغيل الفيديو
تحالفات أمن البحر
ويبدو أن الدول المطلة على البحر الأسود تسعى جاهدة إلى لإيجاد توازن ما، أو قلب معادلة القوة لصالحها بالمستقبل، اعتمادا على الشراكة البينية، أو مع حلف الناتو.
فأوكرانيا مثلا اتفقت، مع كل من تركيا وجورجيا ومولدوفا، على إجراء تدريبات بحرية مشتركة، وعلى أهمية التعاون لضمان أمن منطقة البحر الأسود.
وهي المعنية أكثر من غيرها بهذا الأمر، وقد تكررت -من حين إلى آخر- دعوة الناتو لتوسيع نشر قواته بالبحر الأسود، وتعتزم كييف بناء قاعدتين عسكريتين بحريتين، وتحديث وزيادة حجم أسطولها، وتطوير صواريخ “نبتون” الموجهة لضرب أهداف بحرية.
ولعل آخر حلقة بهذا الإطار كانت زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى كل من جورجيا وأوكرانيا ورومانيا، قبل حضور قمة وزراء “الناتو” في بروكسل.
تقول كسينيا لوغينوفا الكاتبة بصحيفة “إزفستيا” الروسية “أوستن عازم على طمأنة كييف وتبليسي بأن الطريق إلى الحلف مفتوحة أمامهما، وكذلك توضيح كيف ستبنى العلاقات مع الحلفاء بمنطقة البحر الأسود”.
وتضيف “يناقش الناتو باستمرار تعزيز الأمن في منطقة البحر الأسود، ويتم التركيز بشكل خاص على تطوير العلاقات مع تبليسي وكييف”.
تشغيل الفيديو
الحدود والغاز
ورغم أن المخاوف والاتهامات المتبادلة تتمحور حول أمن الحدود والأراضي بشكل رئيس، فإن الجانب الاقتصادي حاضر ضمن قائمة العوامل المؤثرة في توترات البحر الأسود أيضا.
يقول المحلل الاقتصادي أندري نوفاك إن أزمة الطاقة دليل على أن روسيا تحتكر سوق الغاز بأوروبا، وتريد لخط إمدادها الجديد “نورد ستريم 2” أن يكون شريان الحياة الأوحد أوروبيا، بإقصاء دور شبكات النقل الأوكرانية.
ويتابع للجزيرة نت “لن يكون لها ذلك إذا ظهر منافسون بهذا السوق المربح، ومنهم تركيا التي تنقب عن الغاز وتهتم باستخدامه وتصديره بشكل مستقل في المستقبل، وكذلك قطر وغيرها من الدول المنتجة والمصدرة التي تحتاج إلى طرق تصدير أقصر ومنخفضة التكلفة لإيجاد أسعار منافسة”.
ويختم نوفاك بأن سيطرة روسيا على سوريا، وعلى أجزاء واسعة من البحر الأسود، تعني أنها تقطع الطريق الأمثل أمام المصدرين الآخرين، أو قد تعرقله “ناهيك عن الفوائد الاقتصادية الجمة، نتيجة السيطرة على حركة الملاحة التجارية في منطقة شمال البحر الأسود”.
المصدر : الجزيرة