روسيا في أفغانستان.. واقعية لا تشوبها أوهام

روسيا في أفغانستان.. واقعية لا تشوبها أوهام

في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر)، أسفر تفجير بمسجد في كابول تبناه تنظيم “داعش- ولاية خراسان” عن مقتل 19 أفغانيا على الأقل وجرح 30 آخرين. وكانت موسكو سباقة في التنديد بهذا الهجوم، واتصلت بطالبان الذين اكتفوا بضمان أن أفغانستان لن تكون قاعدة انطلاق لأي هجوم إرهابي نحو أي بلد آخر. وأصدر وزير الخارجية الروسي بيانا يؤكد فيه “ضرورة مواصلة الجهود من أجل القضاء على الإرهاب في أفغانستان”.
رغم اقتضابه، يكفي هذا البيان لترجمة أولويات روسيا بشأن أفغانستان ونظام طالبان. وللتذكير، فقد وصفت روسيا منذ بداية الألفية طالبان بالـ”منظمة الإرهابية”، لأن الحركة كانت المعترفة الوحيدة بجمهورية الشيشان إشكيريا، والتي كانت مشروع دولة انفصالية حاربتها موسكو لسنوات عديدة، إلى أن وضع الرئيس فلاديمير بوتين حدا لهذه النزعة الانفصالية. ولكن كما يقال، قد يصبح السيئ جيدا عندما نكون في مواجهة الأسوأ. وعندما أخذ تنظيم “داعش” الأسبقية على باقي المجموعات الإرهابية ليصبح الخطر الأول، وعبّر على نيته اللجوء إلى العنف الجماعي لتحقيق أهدافه المتطرفة والشاملة، أصبح هذا التنظيم هو العدو الأول لموسكو في حربها ضد الإرهاب، ولم تعد طالبان سوى ظاهرة محدودة جغرافيا.
صحيح أن هذه الحركة ما تزال هدفاً لوابل من الانتقادات في موسكو، وقليلون هم أولئك الذين يستسيغون جوهر عقيدتهم السياسية، لكن قرار روسيا يستند في الوقت الحالي إلى فكرة أن طالبان لا تهدد أمن روسيا بقدر ما يفعل تنظيم “داعش”. وأمام غياب أي حل عسكري لقضية طالبان في موسكو، وبما أن فاعلين آخرين من الدرجة الأولى -مثل الصين والولايات المتحدة الأميركية- يتواصلون مع الحركة، فقد ارتأى كبار المسؤولين الروس أن عليهم دخول اللعبة حتى يتسنى لهم ضمان أمن بلدهم.
رسم خطوط حمراء
حتى قبل سقوط كابول، استقبلت موسكو في 9 تموز (يوليو) 2021 وفدا للـ”ذراع السياسية” لحركة طالبان. وخلال النقاشات، استعرض المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، زمير كابولوف، المواضيع الأربعة التي تشغل موسكو بالنسبة للوضع في أفغانستان، وهي: خطر انتقال عدوى عدم الاستقرار من أفغانستان إلى آسيا الوسطى؛ والخطر الذي يمكن أن يشكله تنظيم “داعش” على روسيا وحلفائها انطلاقا من الأراضي الأفغانية؛ وإمكانية تفاقم تهريب المخدرات إلى روسيا؛ والخطر الذي يمكن أن يهدد أمن البعثات الدبلوماسية الروسية.
خلال هذا اللقاء، عملت طالبان على طمأنة محاوريها بخصوص هذه النقاط الأربع، ووعدت بـ”عدم انتهاك حدود بلدان آسيا الوسطى”، وبـ”تقديم ضمانات حول أمن البعثات القنصلية والدبلوماسية الأجنبية في أفغانستان”. كما التزمت بـ”القضاء على إنتاج المخدرات في أفغانستان”، وعبرت عن عزمها على “وضع حد للخطر الذي يمثله تنظيم ’داعش’ في أفغانستان”.
بعد مرور شهرين من وصولها إلى الحكم، تبدو حركة طالبان ملتزمة بوعودها. ولكن لا يكاد أحد في موسكو يصدق تصريحاتها، بل يعتقد القادة الروس بأنها تتحاور في الكواليس مع الصين وإيران، وتتواصل مع الروس والأميركيين، لا لشيء إلا لضمان استقرار بيئتها الدولية، حتى يتسنى لها تعزيز سلطتها وضمان شرعية فعلية لنفسها، أو ربما -في سيناريو مثالي- ضمان مساعدة مادية. وبعبارة أخرى، من مصلحة طالبان حاليا احترام التزاماتها، وهو ما يتقاطع مع المصالح الروسية في هذه المرحلة.
خلال السنوات الأخيرة، تم إرهاق الجيش والاقتصاد الروسيين على جبهات متعددة في شرق أوروبا والبحر الأسود، وصولا إلى شرق حوض المتوسط والقوقاز. ونظرا لما تمثله الذكريات الأليمة للفشل السوفياتي الذريع، فمن الواضح أن أفغانستان تحول أنظار موسكو بطريقة يمكن تقبلها. وعموما، فإن مواضيع مثل استقرار آسيا الوسطى، وأمن روسيا على الحدود الجنوبية، وخطر تفشي الإيديولوجيات الراديكالية، كلها محور اهتمام شخصي للرئيس فلاديمير بوتين. وسيكون مستعدا دائما لتخصيص الوقت والإمكانيات اللازمة لهذه القضايا التي تناسب شهيته السياسية. وقد بات هذا الأمر أكثر صحة اليوم، حيث يعتقد بوتين أن الجيش الروسي يتمتع بإمكانيات أكبر بكثير من تلك التي كان الجيش السوفياتي يتمتع بها، ما يمكنه من “تنكيد حياة” طالبان من دون حاجة إلى التدخل عسكريا في البلاد. وهذا يعني أنه بالنسبة لروسيا، لم تكن نقاشات تموز (يوليو) 2021 مجرد حوار حول الانشغالات والالتزامات، بقدر ما كانت فرصة لرسم الخطوط الحمراء.
الفشل في العراق وسورية
كثيرون في روسيا أولئك الذين يشغلهم انتصار طالبان. وبالنسبة لهم، يرسل نجاح الإسلاميين وإعادة تأسيس الإمارة الإسلامية إشارة خطيرة إلى جميع من يتقاسم أفكارهم حول العالم. “درجات الأخضر الخمسون” -أو بعبارة أخرى، الخلافات السياسية والدينية بين طالبان وتنظيم “داعش”- لا تعني شيئا كثيراً سوى لثلة من الخبراء والأكاديميين. أما بالنسبة للأغلبية، ولا سيما الشباب الذين لديهم انتماء إسلامي قوي، فكما قال القائد الصيني دنغ شياو بينغ: “لا يهم لون القط بما أنه يصطاد الفئران”. وعليه، فليس من المهم أن تكون لدى طالبان رؤية للدولة، وأن يكون لها تعليمات، وقاعدة تساندها، وطريقة تواصل مختلفة عن تنظيم “داعش”. إن ما يهم هو أنها تمثل “قصة نجاح”؛ أي أن الفشل في العراق وسورية تحول إلى نجاح في أفغانستان”، ما يفتح إمكانية إعادة الكرّة. ولذلك، وبالتوازي مع تواصلها مع طالبان عبر سبل دبلوماسية، تقوم روسيا بتمارين عسكرية مشتركة مع جيوش طاجكستان وأوزباكستان، كما تعزز القدرات العسكرية لحلفائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. وتتركز هذه التمارين على محاكاة “رد مشترك للجيوش الثلاثة ضد هجمات عابرة للحدود” باستعمال دبابات، وناقلات جنود مدرعة، وطائرات هجومية من طراز “سو-25″، ومروحيات، وغيرها من الأسلحة.
صحيح أن روسيا ليست سعيدة بوجود إمارة إسلامية غير بعيد عن حدودها. ولكن، طالما ظل مشروع طالبان محليا بلا رؤية شاملة -على خلاف “داعش”- وأن هم الحركة الأكبر هو فرض الشريعة في أفغانستان -مهما كان الثمن الذي سيدفعه السكان- فإن روسيا ستقبل بذلك. وستبقى مديرية المخابرات الرئيسية (أي المخابرات العسكرية) في حالة تأهب لمراقبة الوضع، كما سيكون على وزارة الدفاع تطوير التعاون العسكري مع نظرائها في آسيا الوسطى، أما جهاز الأمن الفيديرالي، فسيسعى لرصد أي مؤشر محتمل حول صعود الإسلاموية في آسيا الوسطى وفي روسيا، ناهيك عن خدمة مراقبة المخدرات الفيديرالية التي ستكون بدورها في حالة تأهب قصوى لكشف المسالك الجديدة لإنتاج الهيروين وطرق وصوله إلى روسيا. ولكن حتى الآن، يبقى هذا الحل هو الأنسب في نظر موسكو، حيث يبقى أفضل من تدخل عسكري بلا أهداف سياسية محددة وبتكلفة قد تكون باهظة. ولكن، إلى متى ستبقى هذه القراءة صحيحة؟
تراجع أميركي في النظام الدولي
من المهم عندما نتساءل عن رهانات الملف الأفغاني بالنسبة لروسيا ألا ننسى أن الأمر لا يقتصر على أفغانستان؛ فالخطاب المهيمن للساسة والخبراء الروس حول تطور الوضع في هذا البلد يتمحور حول ثلاث نقاط أساسية. ولو تركنا جانبا قضية أمن آسيا الوسطى، فإن الجدل يدور أساسا حول انتقاد الحضور الأميركي في أفغانستان على مدى العقدين الأخيرين، وانتقاد السلطات الأميركية التي أشرفت عليه.
يتمثل المحوران الأساسيان لهذا النقاش في فشل الولايات المتحدة الأميركية الذريع في تأسيس جيش أفغاني عملي وقادر على مقاومة حركة طالبان. وقد كانت المحاولة الأميريكية في “بناء الأمة” محل انتقادات لاذعة منذ البداية. ولا تفوّت روسيا فرصة في شبكات المعلومات للتذكير بأن انهيار الدولة الأفغانية أمام طالبان هو نتيجة مباشرة للفشل الأميركي، كما تعمل على نشر هذا التفسير بالقرب من بلدان ترى روسيا أنها تعول أكثر من اللزوم على مساندة أميركية، مثل أوكرانيا أو جورجيا. وتبذل موسكو جهودها لإقناع قيادات أو قوى معارضة في بلدان تمزقها صراعات ما تزال مستمرة، وتنذرهم بقولها: “لن ينفعكم الأميركيون، بل إنهم قد يجعلون الوضع حتى أسوأ مما هو”. والهدف من وراء هذا الخطاب هو تغيير موقفهم وإقناعهم بالتعامل مع روسيا بوصفها شريكا جدّيا. وبعبارة أخرى، يمثل ما جرى في أفغانستان فرصة لتأكيد التراجع الأميركي في النظام الدولي. وخلال القمة التي انعقدت في جنيف في حزيران (يونيو) 2021 للتعاون حول أفغانستان، لم يقترح بوتين على جو بايدن أن يضع المنشآت العسكرية الروسية على ذمة الجيوش الأميركية -خلافا لما تناقلته وسائل الإعلام- بل كانت الفكرة وضع حد لأي إمكانية لوجود أميركي على أراضي حلفاء روسيا في منطقة آسيا الوسطى. ولا تعترض موسكو على تبادل للمعلومات مع واشنطن، شرط ألا يعني ذلك وجود جنود أميركيين في الميدان.
تبنت روسيا إلى حد الآن موقف الانتظار، وهي تسعى إلى التعامل مع الفاعلين الرئيسيين في الملف الأفغاني، وتنادي بأهمية تعاون أكبر على المستوى الإقليمي. ولم تكن إمكانية تدخل الاتحاد الأوروبي بطريقة إيجابية مطروحة فعلا. سيستوجب الوضع الجديد من روسيا أن تسخر جزءا أكبر من مواردها لهذا الملف، وأن تنتبه أكثر لجيرانها المباشرين وللسياسة الداخلية لدول آسيا الوسطى. وعلاوة على ذلك، وحتى لا ينفجر الوضع، يجب الإشادة بـ”إدارة المسؤوليات” بالقرب من البلدان الحليفة وتبني دبلوماسية حذرة مع طالبان. ويبدو أن الحركة مستعدة للنقاش حاليا، لكن المثل القائل بأن “الشهية تأتي مع الأكل” ينطبق أيضا على الحركات الإسلامية. فقد تسعى طالبان إلى نشر عقيدتها والانطلاق في مغامرات جيوسياسية محسوبة. وقد ترى قوى إقليمية مثل باكستان وتركيا وبعض ممالك الخليج أن الوضع في أفغانستان يمثل فرصة لزيادة نفوذها في المنطقة، أو حتى على صعيد أكبر. في السنوات الأخيرة، عزز التدخل الروسي في سورية ثقل موسكو على الصعيد الإقليمي كما الدولي. وقد تلعب السياسة الروسية في أفغانستان قريبا الدور نفسه.

الغد