لا شك أن ملف التعامل مع الأكراد يشغل حيّزا مهمّا من جدول أعمال صناع السياسة الأتراك، حيث تباينت سبل التعامل مع هذا الملف بين شد وجذب من جانب الطرفين، خاصة أنهما يفترض أن يكونا على طرفي نقيض بسبب خلفيات الصراع القومي الكردي التركي على أكثر من جبهة.
لكن منذ صعود الرئيس التركي رجب أردوغان إلى السلطة حدث تقارب واضح بين شق من الأكراد العراقيين ممثلا في الرئيس السابق لإقليم كردستان مسعود البارزاني وحزبه وتطور الأمر إلى علاقات اقتصادية وعسكرية كانت بعنوان تبادل المنافع على حساب أكراد تركيا بالدرجة الأولى وأكراد سوريا بالدرجة الثانية.
ويتساءل مراقبون هل أن العلاقة بين الطرفين استراتيجية أم ستظل مرهونة ببقاء أردوغان في السلطة ورحيله في انتخابات 2023 أو ما بعدها.
وارتفع هذا السؤال بصفة خاصة على خلفية تقارير تداولت مؤخرا أن اعتلال صحة الرئيس التركي قد يجعل مصير هذا التحالف طي المجهول.
ويقول المحلل الأميركي مايكل روبين، وهو باحث مقيم في معهد أميركان إنتربرايز، وهو متخصص في شؤون إيران وتركيا والشرق الأوسط الأوسع في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنتريست”، إنه قبل أكثر من ثلاثة عقود، أطلقت الولايات المتحدة، التي تعمل إلى جانب فرنسا والمملكة المتحدة ما يسمّى بـ”عملية توفير الراحة” التي بدأت في أبريل 1991 للدفاع عن الأكراد الذين فروا من ديارهم في شمال العراق في أعقاب حرب الخليج وتقديم المساعدات الإنسانية لهم.
ليس المجتمع والاقتصاد التركي هما ما يستفيدان من التقارب الكردي التركي العراقي، بل دائرة صغيرة لشركات محيطة بأردوغان
وكانت الفكرة بسيطة، وهي أن تُنشئ دول التحالف ملاذا آمنا في كردستان العراق، لوقف تدفق اللاجئين إلى تركيا ومنع الرئيس العراقي حينذاك صدام حسين، من استئناف جهوده ضد الأكراد.
وتقاسمت تركيا أكبر الحدود مع كردستان العراق، لكنها فتحت حدودها بشكل عام فقط للأكراد وسائقي الشاحنات الأتراك الذين يحملون نفطا رخيصا.
واعتبر روبين أن “تمرد” حزب العمال الكردستاني المستمر منذ عقود، زاد من حدة التوترات أكثر مع اعتقاد أجيال من السياسيين الأتراك بأن الحكم الذاتي الكردي في العراق يمكن أن يلهم معركة حزب العمال الكردستاني لتحقيق نتيجة مماثلة في تركيا.
ومن أجل السيطرة على الحكم الذاتي الكردي إن لم يكن القضاء عليه، اتبعت تركيا عددا من الاستراتيجيات، فقد قامت دوريا بعمليات توغل في الأراضي العراقية من أجل محاربة “حزب العمال الكردستاني” وغالبا ما تركت قواعد عمليات أمامية صغيرة وراءها من أجل الحد من التقدم الكردي العراقي اللاحق.
وبعد أن رفض حزب أردوغان العبور الأميركي قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، فقدت تركيا نفوذها الدبلوماسي في حين كسر الأكراد العراقيون الحظر الذي فرض عليهم. وقبل وقت طويل من بناء الأكراد لمطارات في السليمانية أو أربيل، تمكنوا من الوصول إلى بغداد. كما سيطروا على أراض جديدة وحقول نفط محيطة بكركوك. وفي العام 2006، أصبح جلال الطالباني أول رئيس كردي للعراق.
وعلى خلفية ذلك، قرر أردوغان أنه بالنظر إلى الحقائق الجديدة، فإن أفضل طريق للمضي قدما هو استمالة الأكراد بدلا من السعي لسحقهم. ومن الناحية العملية، كان ذلك يعني التوصل إلى اتفاق مع أتباع مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق سابقا، الذين سيطروا على الأراضي العراقية عبر الحدود التركية العراقية بأكملها.
وسعى الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق إلى مكافأة تركيا على وقوفها معه في صراعه مع حزب الطالباني، وخاصة مع الحكومة المركزية في بغداد بخصوص تصدير نفط الإقليم عبر الأراضي التركية وإيفائه بالعقود التي أبرمها مع الشركات العالمية المختصة.
وعملت أربيل على مد خط أنابيب خاص بها باتجاه تركيا التي عرضت شراء نفط الإقليم، والسماح بتصديره عبر ميناء جيهان بطاقة تقدر بمليون برميل يوميا. كما أعلنت استعدادها لبدء عمليات استكشاف نفطية في أراضي الإقليم.
تركيا تقاسمت أكبر الحدود مع كردستان العراق، لكنها فتحت حدودها بشكل عام فقط للأكراد وسائقي الشاحنات الأتراك الذين يحملون نفطا رخيصا
وفضل البارزاني وحزبه الانتصار لأنقرة على حساب حزب العمال الكردستاني، الذي كان يدعمه تاريخيا بالتدريب والتسليح.
ومن المفارقات أن أردوغان والبارزاني استفادا أيضا من سيطرة الأكراد السوريين المرتبطين بـ”حزب العمال الكردستاني” على حقول النفط، والذين اضطروا بسبب عزلتهم الجغرافية إلى بيع النفط بخصومات كبيرة إلى البارزاني، الذي باع بدوره نفس الوقود بخصم أقل قليلا لتركيا.
ويقول روبين إنه بينما يتاجر البارزاني وأتباعه بالقومية مقابل الثروة والسلطة، يصبح السؤال ما الذي قد يحدث إذا اختفى أردوغان من الساحة؟
ويضيف أن الصفقات التي عقدها الأكراد كانت بين أفراد وليس أنظمة، وبالتالي لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت حكومة “أقل فسادا” من حكومة أردوغان سوف تلتزم بنفس الاتفاقيات.
ويضيف أنه في نهاية المطاف ليس المجتمع والاقتصاد التركي الواسعان هما ما يستفيدان من التقارب الكردي التركي العراقي بل مجرد دائرة صغيرة من الشركات المحيطة بأردوغان.
وأخيرا يقول روبين إنه لا شك أن زوال أردوغان سياسيا قد لا يكون وشيكا. فهو يستطيع النجاة . ففي حين أن أدروغان لا يحظى بشعبية على خلفية انهيار العملة، إلا أنه يسيطر على النظام بما يكفي، بحيث لا يترجم نقص الشعبية إلى خسارة في صناديق الاقتراع. ومع ذلك، فقد يغيب عن المشهد بشخصه حيث لا تزال الشائعات حول اعتلال صحته مستمرة.
صحيفة العرب