مرحبا أوميكرون

مرحبا أوميكرون

متحوّر أوميكرون لوباء كورونا، بحسب استنتاجات العلماء، أكثر تطورا وأقل خطرا.

أفلا يمكنك أن تشتم من ذلك شيئا من رائحة النظرية الخلدونية في التاريخ. فالأكثر تقدما هم دائما الأضعف، لأن عصبيتهم أقل.

فإذا كانت الأندلس بمثابة “أيقونة” جمال وفن وعمارة وأدب في تاريخ الحضارة الإسلامية، فالحقيقة هي أنها كانت الأضعف، بل إنها استسلمت في مراحلها الأخيرة من دون قتال. حيث قام أبوعبدالله الصغير آخر خلفاء دولة بني الأحمر بتسليم غرناطة سلما في العام 1491 ميلادية.

لا شيء يجعل “أوميكرون” يبكي على “ملك مُضاع” كما بكى أبوعبدالله الصغير. فخلفاؤه السابقون “ألفا” و”بيتا” و”غاما” و”دلتا” نجحوا في إصابة أكثر من 262 مليون إنسان، وقتلوا أكثر من 5 ملايين منهم، كما تسببوا بخسائر مادية هائلة على مدار اقتصادات الكرة الأرضية. منها ما نجم عن إجراءات الإغلاق وتعطل سلاسل الإمداد، ومنها ما يترك آثارا قد تستمر حتى العام 2024. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن خسائر الناتج الإجمالي العالمي المتوقَّعة تقدر بنحو 15 تريليون دولار، أو بما يعادل 2.8 في المئة من قيمة ذلك الناتج.

أوميكرون أكثر تطورا من ناحية قدرته السريعة على الانتشار، ومن ناحية التحويرات التي نجح في تحقيقها في “سنابله” (سبايك) المنتشرة على سطحه والتي تسمح له باقتحام الخلايا البشرية. وقد لاحظ العلماء وجود أكثر من 30 تعديلا على هذه السنابل، الأمر الذي جعلهم يخشون من أن النسخة الأخيرة للفايروس يمكن أن تكون أكثر خطرا، وتستطيع أن تتغلب على المناعة الطبيعية للبشر وعلى اللقاحات نفسها، التي استندت بالأساس على استخدام سنابل “ألفا” و”بيتا” لتحفيز آليات المناعة.

النتيجة، بحدود ما يتاح الآن، جاءت أقل إثارة للمخاوف. فالفايروس الذي أنهكنا، أنهك نفسه أيضا. وعلى الرغم من تطوره الشديد، فقد بات عاجزا، على الأقل، عن إصابة الجهاز التنفسي بضرر جسيم، وهو سبب الموت الرئيسي في السلالات السابقة للفايروس.

أحدث الاختبارات ظل يقول إن نسبة التشبع بالأوكسجين في دم المصابين بقيت في حدودها الطبيعية البالغة 95 في المئة، وأن الأعراض الأخرى للمرض قابلة للتحمل.

لا شيء نهائيا بالطبع، إذ لا تزال الحقائق في بداياتها. إلا أن طريق التطور الذي سلكه الفايروس قاده بالاتجاه الخطأ، وذلك على نحو ما قادت الرأسمالية العالمية تطورا قاد الديمقراطية في الاتجاه الخطأ. فهي على المستوى الدولي قوة غطرسة وعدوان وإملاءات سياسية. كما أنها على المستوى المحلي باتت خاضعة لمراكز صنع الرأي العام، التي تحقق لمراكز النفوذ الاقتصادية الكبرى كل ما تريد وليس بالضرورة ما يريده الناخبون.

ولقد أنتجت الرأسمالية أنظمة تمتلك قوة عسكرية هائلة توفر لها وسائل للغزو، وتستعين في الغالب بسنابل (سبايك) متنوعة لكي تتجاوز أنظمة المناعة الطبيعية لدى المجتمعات الإنسانية، إلا أنها ظلت ضعيفة في الجوهر.

أنظمة القوة تلك، يمكنها أن تصيب بالدمار أي مجتمع، فيمرض ويمكن أن يموت أيضا. إلا أن قوتها تلك، كلما زادت وحشية، كلما تحولت إلى مشاعر خزي يدركها أهل القوة أنفسهم، بسبب التناقض الجسيم بين مزاعم الديمقراطية وآليات تطبيقها.

“المتحوّرات” التي أنتجتها البرلمانات الغربية في بعض مسالك السياسة صارت تدفعها إلى لعب أدوار “نبيلة” في الظاهر، من قبيل المساواة بين الجنسين، والدفاع عن حقوق الإنسان، والمحافظة على المناخ، وغير ذلك. ولكنها عندما تستدعي الحاجة لغزو العراق مثلا، فإنها تفعل أي شيء مما يمكن للمخيلة الإجرامية أن تتطلع إليه، ابتداء من أعمال الاغتصاب إلى القتل والدمار المجانيين إلى تنصيب صعاليك على السلطة لكي يتشاركوا معهم في أعمال النهب والسلب، لإقامة “نظام ديمقراطي” طبعا.

هذه الطبيعة لا تقتصر على استخدام القوة للقضاء على قدرة المجتمعات على التنفس بخفض نسبة تشبع الأوكسجين فيها إلى حد الاختناق، من خلال فرض عقود لشراء أسلحة أو لمراعاة مصالح شركاتها، ولكنها تمتد إلى استخدام الديمقراطية وحقوق الإنسان كوسيلة من وسائل التهديد والابتزاز السياسي.

هل قال أحد إن الديمقراطية نظام قيم إنسانية وعلاقات عادلة بين المجتمع والدولة؟

لا. ليس هذا ما تقصده كورونا أنظمة القوة. إنها لا تقصد، بل إنها في الواقع لا تريد أن ترى مجتمعا قابلا للخنق أن يحظى بالمناعة التي يوفرها نظام القيم. وهي بقدرتها على فرض تحويرات في وسائل الابتزاز، إنما تريد أن تتمكن من تجاوز لقاحات الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وسلطة القانون.

سوى أن قوة أنظمة الكورونا السائدة في العالم الغربي، هي نفسها بالذات مصدر ضعفها. ذلك لأنها اضطرت، في بناء تلك القوة، إلى اختراع مسار يبدو أخلاقيا وإنسانيا وعقلانيا، بينما ظلت تلك القوة تتحكم داخل مجتمعاتها وخارجها، بوسائل شديدة الوحشية والتسلط والغطرسة ضد المجتمع نفسه وضد الآخرين.

إنها أنظمة تبدو غنية أيضا. إلا أن غناها منخور إلى أقصى حد بديون فلكية، وبعجز متواصل عن تحقيق معدلات نمو تتناسب مع حاجاتها لتغطية تكاليف تلك الديون. فتضطر إلى أن تتصرف بمقدار أوسع من الشراسة في الخارج لتصريف اختناقها الخاص بالمزيد من خنق الآخرين.

مرحبا أوميكرون. إنه أرحم بكثير من الوباء الذي يسمح للولايات المتحدة بإقامة نظام “ديمقراطي” في العراق لنهبه ونهب دول المنطقة من حوله. ومثله في أفغانستان، والصومال، حيث تحوّل الفشل إلى هزيمة أخلاقية وليس فقط عسكرية أو سياسية.

المفارقة بين المسالك الوحشية للقوة، وبين الادعاءات الأخلاقية والإنسانية للديمقراطية هي التي جعلت متحورات هذا الوباء تتعثر بما صنعت. وظل البون الشاسع يتسع بين الفعل والمزاعم.

ومثلما ورثت عصابات إيران وغلمانها العراق، حتى باتت تتسلّى بقصف قواعد الولايات المتحدة في سوريا، كما تتسلّى إيران نفسها بإذلال الأميركيين في محادثات فيينا، فقد ورثت داعش والقاعدة الصومال في النهاية، بينما ورثت حركة “طالبان” أفغانستان، وخرج منها الرئيسان تواليا (دونالد ترامب وجو بايدن) بهزيمة ذليلة ومنكرة.

لقد حاول أبوعبدالله الصغير أن يقاوم تحت ضغط أمه، عائشة الحرة. إلا أنه ظل رخوا وعاجزا عن خوض الحرب كما كان يجب أن تخاض. فخرج من غرناطة باكيا. ولما أطل على حمرائها من “تلة البكاء” أو المرتفع الذي يسميه الإسبان “زفرة العربي الأخيرة” قالت له أمه “ابكِ مثل النساء مُلكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال”.

مرحبا أوميكرون. هذا ما يكاد يُجمع عليه الأميركيون أنفسهم. إنه أهون من متحورات ديمقراطيتهم التي صنعت الكونغرس والبيت الأبيض، ثم صنعت قصف اليابان بأول قنبلتين نوويتين، وغزو فيتنام وسلسلة انقلابات أميركا اللاتينية وحروبها الأهلية، وحصار كوبا، وغزو أفغانستان، والعراق مرتين، على أساس مزاعم وأكاذيب، والصومال الذي تُرك للمجاعة. أما مخازي “أم البرلمانات” في بريطانيا، فإن سجلاتها في أفريقيا والصين وجنوب شرق آسيا والهند والعراق وفلسطين ومصر، لا يكاد يسعها العار أصلا. حتى لتستغرب كيف أن الذين لا يزالون يمسحون مؤخرتهم بالورق، يجرؤون على تقديم النصائح الأخلاقية للآخرين.

العرب