معدلات الإصابة بمتحور كورونا الجديد في الولايات المتحدة، والتي تجاوزت مليون إصابة في اليوم، ليست هي الأعلى في العالم. الرقم مرعب، ولكن الرقم في بريطانيا مرعب أكثر. فعندما يصاب نحو ربع مليون إنسان كل يوم، من بين 67 مليون نسمة، فهو يساوي نسبة إصابات تبلغ 0.37 في المئة في اليوم، بينما هي في الولايات المتحدة 0.30 في المئة في اليوم بين 332 مليون نسمة.
في ذروة تفشي الوباء تمكنت مؤسسة الخدمات الصحية البريطانية من توفير الرعاية لـ37 ألف مصاب، كان معدل بقائهم في أسرتهم يتراوح بين 4 – 6 أيام، قبل الشفاء أو الوفاة. ولو صدقت التقديرات بأن نحو 0.7 في المئة من المصابين هم الذين يحتاجون الدخول إلى المستشفيات، فإن ذلك سوف يعني دخول ما لا يقل عن 1750 مصابا جديدا كل يوم.
باختصار لن تبلغ بريطانيا نهاية هذا الشهر حتى تغرق كل المستشفيات. ومن المتوقع أن يضيف البريطانيون إلى وفياتهم الـ145 ألفا، نحو 175 ألف وفاة جديدة.
الحال ليست بأفضل منها في فرنسا وألمانيا. وهي بكل تأكيد أسوأ بكثير في بلدان العالم الأخرى. ولعل ذلك يوفر الدليل على أن “مناعة القطيع”، بكل ما تعنيه من تكاليف، هي “الدرع الأخيرة”، حتى وإن لم تكن الوحيدة. فمعدلات التلقيح العالية لعبت دورا مشهودا في الحؤول دون وقوع واحدة من أعظم المآسي في التاريخ. ولكن هذه الدرع ليست هي الدرع الأخيرة فعلا. نحن في حاجة إلى درع أكثر شمولا منها بكثير.
المأساة لن تنتهي إلا بمأساة. ولكن الضوء في آخر هذا النفق يقول إننا بعد أن تتحقق إصابات ولقاحات ثلاثية، تتجاوز الـ75 في المئة من مجموع السكان، فإن الوباء لن يعود يتمتع بمساحة واسعة من الانتشار. ولن تمضي عشرة أيام، في المتوسط، من بعد هذه النتيجة، حتى يُفترض بالوباء أن يمضي في طريق الانحسار.
الأميركيون يطلقون الآن تعبير “تسونامي” على ما يحدث. عاصفة هوجاء تغلب على كل شيء، وتنهار تحتها كل الأعمدة الحديدية التي وضعت تحت أرضية المنزل
سرعة التفشي التي يحققها أوميكرون قد تكون هي ذاتها عاملا قاتلا له. فلقد عرف العالم خمسة متحورات كبيرة خلال العامين الماضيين. ما يجعل كل متحور بحاجة إلى نحو 5 أشهر لكي يُسلم عهدته لمتحور آخر يليه. وما لم تكن هذه الأشهر الخمسة قد مضت بالفعل، في بعض مناطق العالم، لكي يظهر متحور آخر، لا تعرف كيف سيكون، فإن أوميكرون، على الأقل، يُفترض أن يكون قد بلغ نهاية عمره الافتراضي بحلول نهاية الشهر المقبل.
ماذا نملك في مواجهة هذه المأساة؟ في حدود المتداول من إجراءات، فلا نملك في الواقع أكثر مما فعلنا. وفي النهاية فإن نحو 300 مليون إصابة، و6 ملايين وفاة، حتى لو تضاعفت، فإن آخر المطاف، لن يجعل المأساة أخف. كما أنه لن يجعلها أثقل. سوف يكون بوسع مختبرات العلم أن تقول: لقد فعلنا كل ما هو ممكن، بالسرعة الممكنة. ولقد غلبنا بحماية أعداد ضخمة من البشر، كما غُلبنا بخسارة لا مفر منها، رغم أنه لا يمكن الاستهانة بكل فرد من ضحاياها.
ولكن هل ستكون هذه هي المأساة الأخيرة؟ وهل ما تحقق من غلبة، هو غلبة كافية بالفعل؟
الهزة العنيفة التي تعرضت لها البشرية، أظهرت، على الوجه الأهم للحقائق، أنها تعيش على حافة هاوية حقيقية يمكن أن تنهار أجزاء منها بين أسباب وأخرى. وليست الهاوية صحية فحسب. إنها هاوية بيئية واقتصادية وسكانية واجتماعية وأمنية متعددة الأوجه. وهذه تتطلب قراءات جديدة في كل اتجاه.
الفلاسفة، وليس علماء مختبرات الأبحاث الفايروسية، هم الذين يتعين عليهم أن ينهضوا لتقديم تلك القراءات. إذ لم يعد بالإمكان النظر إلى الاقتصاد من الزاوية نفسها التي حققت الغلبة وأعلنت انتصارها الأخير.
هناك حاجة حقيقية لمعرفة كيف يمكن للشراكة الإنسانية أن تكون فعالة أكثر، وتضامنية أكثر.
لقد أنفقت الاقتصادات الكبرى نحو 9 تريليون دولار من أجل حماية شركاتها من الانهيار. جزء ضئيل فقط من هذه الأموال توجه إلى البلدان الفقيرة، رغم أن أوميكرون، كما هو يُعتقد، قد جاء من هذه الأخيرة، وعاد ليهدد الاستقرار الاقتصادي في عالم الأغنياء.
ما أصاب العلائق الإنسانية من كدمات، أوقع أضرارا أكبر في فكرة الإنسان عن نفسه، وفي حرياته الفردية، وفي نظام علاقاته الاجتماعية. ولقد تهشم الكثير من الواجهات الزجاجية لهذه العلاقات.
هذا المسار يفترض أن يكون قد بلغ النهاية. لم يعد بوسع الرأسمالية أن تفعل أكثر مما فعلت، بنماذجها المختلفة. كما لم يعد بوسع كل النظريات الاجتماعية أن تتوقف لتتفرج على عالمها الذي ينهار
الإنسان الذي يطارد سعيه للنجاة، ليس هو نفسه الإنسان الذي يطارد سعيه للرفاهية. هذه الرفاهية نفسها تهشمت. والقيمة التي كان يملكها المال، انخفضت بكثير أمام الحاجة إلى لقاح أو إلى أمن اجتماعي أو بيئي.
ببساطة، نحن نعيش على وقع تقلبات بورصة مختلفة، تأخذ من حيوات البشر مباشرة، كما تأخذ من أنماط عيشهم وعلاقاتهم، أكثر بكثير مما أخذت بورصات الكساد. اكتظاظ البشر نفسه، وتجمعاتهم المدينية، أصبحت هي ذاتها خطرا جسيما عليهم أيضا.
ولا أحد أكثر من الفلاسفة يمكنه أن يقدم رؤيا جديدة. المسألة أبعد بكثير من مسألة علاجات وأدوية ولقاحات. فهذه شيء أشبه بوضع أعمدة حديدية تحت بناء في منحدر، يوشك على الانهيار. المنحدر قد يكون، في نهاية الأمر، أقوى من كل تلك الأعمدة، وقد يغلب عليها كما يغلب أوميكرون علينا بانتشاره الساحق.
الأميركيون يطلقون الآن تعبير “تسونامي” على ما يحدث. عاصفة هوجاء تغلب على كل شيء، وتنهار تحتها كل الأعمدة الحديدية التي وضعت تحت أرضية المنزل.
وما لم يقابل هذا “التسونامي”، آخر فلسفيا، ليعيد بناء تصور المجتمعات لعلاقاتها وأنظمتها الاقتصادية والحياتية، فإننا سوف نبدو كمن أصابه الذهول ولم يخرج من الصدمة.
ما نحن فيه من مأساة لا يتعين أن ينتهي بمأساة أعمق عندما نتغلب على هذا الوباء، فنعود لننظر إلى عالمنا كما نظر إليه آدم سميث وكارل ماركس وجون لوك وفريدريك نيتشه وجان جاك روسو وجان بول سارتر والعشرات غيرهم.
لقد عاش كل هؤلاء برفاهية عالم كان يبني نفسه ويأخذ المسار الذي انتهينا نحن إليه.
هذا المسار يفترض أن يكون قد بلغ النهاية. لم يعد بوسع الرأسمالية أن تفعل أكثر مما فعلت، بنماذجها المختلفة. كما لم يعد بوسع كل النظريات الاجتماعية أن تتوقف لتتفرج على عالمها الذي ينهار.
ما تهشم في واجهاتنا الزجاجية لم يعد قابلا للإصلاح. نحن في حاجة إلى واجهات جديدة.
هذه هي الدرع التي نحتاج. وأهل الفلسفة هم أولى بتقديمها، لا المختبرات.
العرب