كانت المعارضة العراقية المتتالية، بداية من العام 1958، بشكل آو بآخر، معارضة عابرة للهوية، بما فيها المعارضة الكردية، التي لم يكن برنامجها، منذ بدايتها إلى تسعينيات القرن الماضي، يتضمن بعدا انفصاليا، بدليل أن الحزب الشيوعي العراقي، الذي هيمن الشيوعيون الكرد عليه بداية من الخمسينيات، كان متحالفا مع الحركة الكردية المسلحة عبر ما أطلق عليه «الأنصار» التي مثلت الذراع العسكري للحزب. لكن هذه المعارضة بدأت تأخذ شكلا هوياتيا بالتدريج، ليصل الأمر مداه في التسعينيات، حين تحولت المعارضة إلى فعل ذي طابع هوياتي؛ قومي أو مذهبي، مع بقاء بعض القوى ذات التأثير الأضعف متمسكة، ولو شكليا، بطابع عابر للهوية، كما في حركتي الوفاق والمؤتمر الوطني، ولكنهما استسلمتا بعد العام 2003 للشرط الهوياتي، فقبلتا أن تكونا جزءاً من مجلس الحكم على أساس هوياتي. ولعل اللحظة الرمزية الأكثر تعبيرا عن هذا المسار هو دعوى أحمد الجلبي إلى تأسيس البيت الشيعي!
بداية من مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية في العام 1992، لم يعد الفاعلون السياسيون الكرد يتحدثون عن حكم ذاتي، كما كان الأمر خلال السنوات التي سبقت المؤتمر (كانت دعوة «الاستقلال الإداري» للكرد في العراق التي أطلقها حزب رزكاري كرد في العام 1945 أول إشارة إلى موضوع الحكم الذاتي) بل أصبحوا يتحدثون عن الفيدرالية، وكان ذلك نتاجا مباشرا للإدارة الذاتية التي نشأت في كردستان العراق بعد انسحاب الجيش العراقي منه. وكانت هذه الدعوة بداية لسلوك كردي منهجي بالاهتمام بطبيعة العلاقة مع المركز، أكثر من الاهتمام ببناء الدولة او نظامها السياسي ككل، هكذا وجدنا الفاعلين السياسيين الكرد بعد العام 2003، حريصين على ترسيخ تجربتهم الفيدرالية، وإيصالها إلى نموذج غير مسبوق في طبيعة العلاقة مع المركز، في الوقت نفسه عزل أنفسهم عما يحدث من صراعات في هذا المركز!
بعد العام 2003 بات الجميع ينظر من منظار هويته الفرعية، ومصالحها المفترضة او المتخيلة، أكثر مما ينظر من منظار هوية وطنية جامعة ومصالح مشتركة تمثلها «وطنية» غائبة لا بد من إعادة انتاجها واستحضارها! وكانت لحظة كتابة الدستور في العام 2005 تطبيقا مثاليا لهذا التوجه، فقد حرص الفاعلون السياسيون الكرد على ضمان مكتسباتهم على مستوى «الفيدرالية» في مقابل السماح للفاعل السياسي الشيعي بحكم المركز كما يريد، في ظل غياب الطرف الثالث الذي يشكل المعادلة الديمغرافية/ السياسية في العراق وهم السنة العرب! هكذا كان المفاوض الكردي على سبيل المثال حريصا على ضمان مادة «ملتبسة» تتعلق بالنفط والغاز تمكنه من تأويلها لاحقا لمصلحته، في مقابل عدم اكتراثه بموضوع ضمان الشراكة الحقيقية في السلطة في بغداد! لقد قلت، في مناسبات كثيرة، إن المعادلة التي حكمت العراق بعد لحظة نيسان 2003 هي معادلة مختلة تمثلت في معادلة المنتصرين والمهزومين؛ فقد توهم الفاعلون السياسيون الشيعة والكرد أنهم منتصرون، ومن ثم كانت لحظة تغيير النظام لحظة تاريخية، لن تتكرر، من أجل تثبيت مطالبهم القومية والمذهبية، بل حتى سردياتهم، في مقابل مهزومين هم السنة العرب لتماهيهم الطويل مع «السلطة المنهارة» وكان لا بد من عقابهم سياسيا.
هل تعلّم الفاعلون السياسيون الكرد الدرس من أن معادلة المنتصرين والمهزومين لا يمكن أن تبني دولة، وأن استراتيجية العزلة عن بغداد ومشاكلها ليست سوى خرافة
ورسمت المعادلة السياسية في العراق على شكل مثلث قائم الزاوية، يقف السنة والشيعة في قاعدته، ويقف الكرد في قمته، هكذا ظل الكرد في إطار تحالفهم كمعارضة مع الأحزاب الشيعية، ثم عبر التحالف الرباعي الاستراتيجي الذي أعلن في العام 2007 بين الحزبين الكرديين؛ الوطني الديمقراطي والاتحاد الوطني، والحزبين الشيعيين: الدعوة والمجلس الأعلى، يشكلون الضلع القائم الذي يكرس اختلال علاقات القوة في بغداد، ويكرس احتكار السلطة فيها.
لكن المواجهات التي بدأت بين الإقليم والمركز في حكومة المالكي الثانية (2010 ـ 2014) وصولا إلى لحظة الاستفتاء عام 2017، جعلت الإقليم يواجه الحقيقة الواضحة؛ وهي أن لا إمكانية لعزل «الإقليم» عن «المركز» وأن غض القادة الكرد الطرف عن حقيقة احتكار الفاعل السياسي الشيعي السلطة في المركز، كان خطأ استراتيجيا فادحا، وأن التحالف الرباعي كان مجرد هدنة مؤقتة لإتاحة الفرصة والوقت للفاعل السياسي الشيعي لحسم صراعه في بغداد لتثبيت سلطته. هكذا لم تكن العقوبات التي تعرض لها الإقليم يومها، ضمن الدستور الذي كتبه الفاعلون السياسيون الشيعة والكرد بصفقة مشتركة، بل كانت حملة عقوبات جماعية أتاحتها علاقات القوة المختلة التي سمح الفاعلون السياسيون الكرد، أنفسهم، بتشكلها من خلال خرافة العزلة عن بغداد.
عمد المالكي، في العام 2014، إلى استغلال لحظة داعش لشرعنة الميليشيات، وهو كان قد بدأ بإعادة انتاجها قبل ذلك التاريخ بشهور طويلة، ولم ينظر الفاعلون السياسيون الكرد إلى خطورة هذه (الدولة الموازية) التي تتشكل على حساب الدولة، بل عمدوا إلى التغافل، وساهموا في تكريسها، ثم في تغطيتها قانونيا، لاعتقادهم أنهم غير معنيين بها ما دامت ستبقى بعيدا عنهم، ولم يشعروا بفداحة هذا التغافل إلاّ حين وصلت الكاتيوشا إلى أربيل نفسها!
هل تعلّم الفاعلون السياسيون الكرد الدرس من أن معادلة المنتصرين والمهزومين لا يمكن أن تبني دولة، وأن استراتيجية العزلة عن بغداد ومشاكلها ليست سوى خرافة، وأن احتكار السلطة في بغداد سينسحب بالضرورة على أربيل والسليمانية، وان علاقات القوة المختلة في بغداد لن تسمح بأي استقرار أو تنمية مستدامة في كردستان، وأن احتكار السلطة، في دولة ريعية، سيطيح بالنموذج الفيدرالي نفسه؟
إذا كان الأمر كذلك فهذا يفرض عليهم أن يعيدوا بناء استراتيجياتهم بما يتيح اعتماد سياسة الاندماج بدل العزلة، والعمل على فرض مبدأ الشراكة في السلطة في بغداد بديلا عن احتكار طرف واحد لها، والإصرار على أن لا مستقبل للعراق في ظل علاقات قوة مختلة، والدفاع عن فكرة اللامركزية والنموذج الفيدرالي ومواجهة السياسات المنهجية التي تسعى للإطاحة بهما. وهذا يتطلب من الفاعلين السياسيين الكرد أن يقنعوا الفاعلين السياسيين السنة المدجنين وغير الآبهين بجمهورهم أو مستقبل العراق، بهذه الاستراتيجية التي هدفها في النهاية ليس تشكيل تحالف مذهبي مضاد، بل تحالف سياسي هدفه إعادة بناء النظام السياسي وفق مبدأ الشراكة الحقيقية في السلطة، بما يسمح ببناء دولة حيادية تجاه مواطنيها، دولة ديمقراطية تؤمن بالقانون والمؤسسات والحريات وليس دولة هجينة تؤمن بالميليشيات والتمييز وفرض هوية أحادية على المجال العام.
يحيى الكبيسي
القدس العربي