شهد الأراضي الفلسطينية المحتلة موجة من الاحتجاج يقودها الشباب الفلسطيني، تواجهها «إسرائيل» كعادتها بتدابير أمنية عنيفة.
وتأتي هذه الاحتجاجات تعبيراً عن الرفض الذي يقابل به الفلسطينيون تنامي الاستفزازات «الإسرائيلية» في الفترة الأخيرة، على مستوى اقتحام الحرم الشريف، والسعي لتهويد المعالم الإسلامية للقدس والاستمرار في التنكر للاتفاقيات المبرمة.. تبرز الكثير من المؤشرات أن الأمر يتعلق بانتفاضة فلسطينية ثالثة – بعد انتفاضتي 1987 و2000- يقودها الشباب برغم التباين الحاصل في مواقف الأطراف السياسية الفلسطينية.
وتجد هذه الانتفاضة مبرراتها في العديد من الأسباب، التي تعبّر في مجملها عن إحباط الفلسطينيين من نخب سياسية لم تكن في حجم التحديات المطروحة على القضية من جهة، وعدم الثقة في مسار مفاوضات غير متوازنة، لم يلتزم فيه الكيان «الإسرائيلي» بالاتفاقات المبرمة، في ظل صمت دولي رهيب من جهة أخرى.
كان للانقسام الذي حدث بين حماس وفتح، أثر سلبي كبير في مستوى تراجع بريق القضية الفلسطينية في أوساط شعوب المنطقة والعالم، بعدما ظل استهداف الدم الفلسطيني من قبل فلسطيني أمراً محرّماً، كما أعطى هذا الصراع الانطباع بأن هناك من كان يسعى إلى سلطة وهمية ومحدودة على حساب القضية المركزية التي هي مواجهة العدو الحقيقي المجسد في الاحتلال، وقد استغلت «إسرائيل» هذا الوضع في تضييق الخناق على الفلسطينيين والمماطلة في عدم احترام الاتفاقيات المبرمة.
علاوة على الشرخ الداخلي الذي أصاب وحدة الصف الفلسطيني في السنوات الأخيرة، وتفشّي مظاهر من سوء التدبير في الضفة والقطاع، لا شك أن الأحداث الدولية والإقليمية التي شهدها العالم في العقدين الأخيرين، أثرت بدورها بالسلب في القضية، فالولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل» استغلتا أحداث 11 سبتمبر، لتجريم العديد من حركات المقاومة الفلسطينية ووصمها بالإرهاب، فيما لم يخف الشرخ العميق الذي أصاب النظام الإقليمي العربي، وتباين الرؤى والمواقف بين مكوناته من عدد من القضايا الدولية والإقليمية في أعقاب الحراك بالمنطقة، إضافة إلى تركيز العديد من القوى الدولية الكبرى والأمم المتحدة على ما خلفته تحولات هذا الحراك من صراعات وأزمات، كما هو الشأن بالنسبة للأوضاع الأمنية والعسكرية في ليبيا واليمن وسوريا، والتداعيات الإقليمية والدولية التي أثارها تزايد حدّة الهجرة السرية وطلب اللجوء هرباً من العنف في سوريا.
منذ إبرام اتفاقيات السلام، لم تتوقف «إسرائيل» عن سلوكاتها العدوانية في الأراضي المحتلة، بقتل الفلسطينيين واعتقالهم، وفرض الحصار وبناء المستوطنات والسعي لتغيير معالم القدس وتهويدها، في تناقض تام مع شعاراتها المتصلة بإقامة السلام..
لم يعد مشروع «إسرائيل» في الأراضي المحتلة خافياًَ، فهناك سعي مستمر لطمس المعالم العربية والإسلامية في هذه الأراضي وفي القدس على وجه الخصوص، والاستمرار في فرض الأمر الواقع، من خلال إقامة الجدار العازل وبناء المستوطنات واستعمال القوة لمواجهة الأصوات الرافضة لهذه المشاريع الإجرامية..
لم تتوان دولة الاحتلال – وكعادتها- عن توظيف القانون الدولي بانحراف كبير في تبرير عملياتها العدوانية في الأراضي المحتلة، متذرّعة في ذلك بممارسة حق الدفاع الشرعي.
فيما تشير كل الوقائع والأحداث الميدانية أن ما قامت به من اعتداءات متكرّرة داخل الأراضي المحتلة وفي غزة على وجه الخصوص، هي أعمال تتنافى بصورة لا لبس فيها مع مضمون وأهداف المادة 51 من الميثاق الأممي، بل هي عدوان واضح المعالم وتندرج ضمن الأعمال الانتقامية التي يحرمها القانون الدولي، استهدف فيه المدنيون وقصفوا بأخطر أنواع الأسلحة.
والواقع أن الدافع لهذه العمليات هو القضاء على كل حركة فلسطينية تتوخى المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والنضال لمواجهة المحتل، ووضعها أمام واقع «مفاوضات» مختلة ومحسومة مسبقاً لصالح «إسرائيل».
إن ما يشجّع هذا الكيان على التمادي في ممارساته الوحشية، هو عدم تحمل الأمم المتحدة عامة ومجلس الأمن على وجه الخصوص لمسؤوليتهما المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين وحماية الفلسطينيين وفرض احترام الشرعية الدولية في هذا الشأن..
فيما لم تستطع مجمل الدول العربية القيام بأي خطوة ناجعة للضغط على المحتل، باتجاه وقف الاعتداءات واحترام الاتفاقيات، بفعل الأوضاع المضطربة التي تعيش على إيقاعها دول المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة..
أقرّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن اتفاقيات أوسلو أضحت متجاوزة وجزءاً من الماضي، وبخاصة وأن مجمل التدابير التي أسفرت عنها هذه الاتفاقيات وغيرها، فيما يتعلق بالتنسيق الأمني..
لا تبشر مطلقاً بإمكانية حماية الفلسطينيين من بطش السلطات «الإسرائيلية» أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
لا يخفي الفلسطينيون بكل أطيافهم، حماسهم إزاء العودة إلى الانتفاضة من جديد، كسبيل لتحقيق مطالبهم وحقوقهم المشروعة، غير أن ثمة تبايناً على مستوى رهانات هذه الانتفاضة، بين من يعتبرها مدخلاً لتعزيز ودعم خيار التفاوض، و من يعتبرها أسلوباً لتحقيق كل المطالب الفلسطينية المشروعة في مواجهة طرف «إسرائيلي» لا يؤمن إلا بلغة العنف والقتل..
حقيقة أن انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية سيشكل ضغطاً على «إسرائيل» التي ارتكبت جرائم حرب وإبادة في حق الفلسطينيين، علاوة على كونه يشكل اعترافاً ضمنياً بدولة فلسطين.
كما أن رفع العلم الفلسطيني فوق مقر الأمم المتحدة، وتوجه البرلمانات الأوروبية وغيرها في مختلف بلدان العالم إلى الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة سيدعم القضية وسيزيد من محاصرة وإحراج سلطات الاحتلال.
غير أن ذلك لن يكون كافياً في الضغط باتجاه كسب الحقوق المشروعة، ما لم تتحقّق وحدة الصف الفلسطيني وتجاوز الخلافات المطروحة، خصوصاً وأن «إسرائيل» – ومنذ انطلاق المفاوضات- لم تبد أي حماس أو إرادة فعليين إزاء بناء دولة فلسطينية مستقلة، كما أن هذا الحل لن يتبلور على أرض الواقع، إلا إذا تحملت الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة المسؤولية في الضغط على «إسرائيل» في هذا الخصوص واحترام ما سينتج عنه من واقع جديد.
ادريس لكريني
صحيفة الخليج