لم يتغير الوضع السياسي في العراق عام 2021 عن بقية السنوات من الغزو الأمريكي له عام 2003 لكن الانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر أدت إلى خلط الأوراق السياسية وخلخلة النظام الذي ساد البلاد منذ الغزو والقائم على تدوير نفس الوجوه والتحالفات التي أضعفت البنية العراقية وأدت إلى فقدان الناخب العراقي الثقة بالنخب الحاكمة وأبعدته عن المشاركة وبشكل واسع في الانتخابات. مما يعني نقل الخلافات حول نتائج الانتخابات إلى العام الجديد 2022 فمع أن الانتخابات الأخيرة كانت استجابة لمطالب الحراك العراقي والاحتجاجات التي أندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وأودت بحكومة عادل عبد المهدي في حينه إلا أن المشاركة فيها كانت متندنية مع أن الحكومة قالت إنها 41 في المئة.
محاولة قلب النتائج
ودخل العراق بعدها في مرحلة من المناورات والمفاوضات لانها أدت إلى خسارة الكتل المؤيدة لإيران مثل كتلة الفتح التي استفاد قادتها من الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية ودخلوا اللعبة السياسية وفازوا بمقاعد بالبرلمان العراقي. وكان الفائز في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر الماضية هو مقتدي الصدر وتياره «سائرون» وجاء النصر رغم تخلي الصدر عن المحتجين المطالبين بالتخلص من النظام الفاسد الذي نهب البلاد وأوصل بلدهم الغني بالنفط إلى هذه الحالة. ولكنه استفاد كسابقيه من عدم حماس الناخبين والقانون الإنتخابي الجديد الذي حد من قوة الأحزاب التقليدية ووسع المناطق الإنتخابية بطريقة سمحت بظهور وجوه جديدة، بعضها من حركة الإحتجاج.
ويعتقد المراقبون أن الصدريين درسوا الخريطة الانتخابية وتأكدوا من عدم نزول مرشحين من نفس الكتلة في المنطقة الانتخابية نفسها. وأثارت النتائج التي وسعت مكاسب الصدريين من 54 مقعدا في انتخابات 2018 إلى 73 مقعدا في الانتخابات الأخيرة مخاوف الكتل المنافسة وهو ما دعاها لرفضها. أما الكتل الموالية لإيران فقد تقلصت مقاعدها إلى 17 مقعدا لكتلة الفتح والتي تضم رموزا من الحشد الشعبي الموالية لإيران. وحققت كتلة دولة القانون التي يترأسها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على 35 مقعدا وجاءت متأخرة على كل من الصدر ومحمد الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته ( تقدم) 41 مقعدا.
كل هذا دفع الأطراف الخاسرة لرفض نتائج الانتخابات وقادوا حملة تظاهرات لعكس نتيجتها وتقدموا بشكاوى إلى مفوضية الانتخابات لإعادة فرز الأصوات بتهمة حصول تلاعب في العد. وخلال هذه الحملة الرافضة تعرض منزل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر لهجوم كان يهدف لاغتياله. ومع أن التحقيق جار في الهجوم الذي تم بطائرات مسيرة إلا أن أصابع الإتهام وجهت إلى جماعات سبق أن هدد قادتها الكاظمي. ولم تحسم المحكمة الفدرالية العليا الأزمة إلا في 27 كانون الأول/ديسمبر وأكدت على نتائج انتخابات تشرين الأول/أكتوبر ما فتح المجال أمام تشكيل حكومة جديدة وعقد جلسة البرلمان التي أعلن عنها الرئيس برهم صالح في 9 كانون الثاني/يناير وسيتم فيها انتخاب الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان، وضمن إطار المحاصصة، كردي، شيعي وسني على التوالي.
خلط الأوراق
وبالنسبة للجماعات الموالية لإيران مثل الفتح ودولة القانون ففوز الصدر هو بمثابة خلط للأوراق التي تم التعامل معها خلال 20 عاما ويهدد بالتالي التأثير الإيراني. وسيلعب التيار الصدري دورا رئيسيا في البرلمان واختيار رئيس الوزراء المقبل. وهذه هي الانتخابات الخامسة منذ الإطاحة بصدام حسين ولكنها لن تحل المشاكل التي يواجهها المواطن العراقي الذي باتت عبارة «غياب الدولة» جزءا من حديثه اليومي، فهذا لن ينسى أن إهمال الحكومة كان وراء الحريق الذي اندلع في مستشفى إبن الخطيب وأودى بحياة أكثر من 150 شخصا في نيسان/إبريل، وبعد ذلك ذلك في تموز/يوليو اندلع حريق في عنبر كوفيد-19 قتل أكثر من 90 مريضا وأدى لتظاهرات في مدينة الناصرية بجنوب العراق. وبنفس السياق عانت منطقة الجنوب التي يديرها حلفاء التيار الصدري من حالات انقطاع الكهرباء مما اضطر بعض السكان البقاء في سياراتهم بحثا عن البرودة.
مفاوضات في النجف
وفي هذا السياق بدأ الصدر جهوده لتشكيل حكومة أغلبية، فقد وعد المسؤولون في تياره بأنهم سيختارون شخصية رئيس الوزراء القادم فيما يأمل رئيس الوزراء الحالي الكاظمي بالحفاظ على منصبه الذي تولاه في أيار/مايو العام الماضي. وقد حظي الكاظمي بقبول من الولايات المتحدة التي وقع معها اتفاقية عسكرية خرجت بموجبها القوات الأمريكية من العراق، وهو مطلب الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، ولم تعترض هذه علنا على الكاظمي الذي أسهم في عمليات التحاور عدوتها السعودية لحل عدد من الملفات وأهمها ملف اليمن.
وكشف موقع «ميدل إيست آي» (31/12/2021) عن غداء عمل في بيت الصدر بالنجف وحضره هادي العامري، رئيس كتلة الفتح وقيس الخزعلي، زعيم الميليشيا المسلحة عصائب الحق وفالح الفياض، رئيس الحشد الشعبي. وكان هدف اللقاء هو «مناقشة تشكيل الحكومة المقبلة». وقدم الصدر في اللقاء رؤيته حول مستقبل العراق وهي حكومة أغلبية بقيادته تحجم دور زعيم دولة القانون المالكي، وعدوه التقليدي. وقدم الصدر الصدر خطته لضيوفه لكن الاجتماع انتهى بدون أي تقدم حسبما نقل الموقع عن أحد المشاركين فيه. وكان الصدر يأمل بأن يؤدي اجتماع النجف إلى تسريع عملية تشكيل الحكومة قبل جلسة البرلمان المقبلة. وقال أحد المشاركين في الاجتماع «لا يزال الصدر يصر على تشكيل حكومة غالبية سياسية تضم عددا من القوى الشيعية التي فازت بالانتخابات ولكن ليس كلها». ويرى أن مصلحة العراقيين تتطلب دفع واحدة من القوى الرئيسية منها إلى المعارضة، في وقت تتحمل فيه قوة أخرى، أي التيار الصدري مسؤولية تشكيل الحكومة وأدائها مع رئيس الوزراء. وهو موقف لم يقنع المشاركين في اللقاء. فهم يعتقدون أن الصدر يريد تفكيك الكتلة الشيعية بشكل يقوي الكتلة السنية والكردية اللتان ستنضمان لتوليفة الصدر الحكومية.
ويحاول الصدر اللعب على ضعف القوى الشيعية التي لم تحقق مكاسب في الانتخابات بالإضافة إلى التفكك داخل الميليشيات الشيعية بعد مقتل أبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد مع قائد فيلق القدس، قاسم سليماني بداية عام 2020 فلم يكن خلفه إسماعيل قاآني قادرا على فرض سلطته على هذه الميليشيات بسبب عدم معرفته بالظرف العراقي كسلفه سليماني. وفي الماضي كانت توليفة المشاركة في السلطة بين الأطراف الشيعية تعني غيابا في المعارضة داخل البرلمان، بشكل قاد لاستشراء الفساد داخل مؤسسات الحكم وانهيار الخدمات والأوضاع اليومية التي يعاني منها المواطن العراقي من انقطاع الكهرباء ونقص في مياه الشرب، خاصة في مناطق الجنوب. ولم يؤد النظام إلى استقرار سياسي نظرا للصراع المستمر بين أطراف اللعبة السياسية ومحاولة كل طرف إضعاف الطرف الآخر، وهذا يشمل التيار الصدري الذي سيطر على النظام الصحي، وملأ الوزارات التي سيطر عليها بكوادره، تماما كما فعل حزب الله اللبناني. فحريق بغداد والناصرية هما نتاج الإهمال.
كولسة مضادة
ومن أجل مواجهة محاولات الصدر «الاستئثار» باللعبة السياسية وتحييدهم فعّلت القوى الشيعية «الإطار التنسيقي للقوى الشيعية» الذي قاطعه التيار الصدري، ولدى الإطار حوالي 60 مقعدا في البرلمان ويترأسه المالكي الذي حصل على أعلى المقاعد من بين القوى الشيعية غير الصدر. ويشكل هذا مشكلة لهم سواء عاد للإطار التنسيقي أم لم يعد. فالصدر لديه مواقفه من التيارات الشيعية قبل الانتخابات ولن ينسى ما فعله له المالكي والخزعلي. وعلينا ألا ننسى إيران التي تحاول كل القوى التقرب منها، ومن هنا نفهم محاولات الصدر جذب كل من الفياض والعامري إلى صفه. وفي الوقت الحالي فليس لدى أي من الأطراف خيارات قوية، فالصدر وإن حصل على أكبر عدد من المقاعد إلا أنها ليست كافية لتشكيل حكومة أغلبية، والأمر في النهاية يعود إلى الولايات المتحدة وإيران.
محاور للغرب؟
وجرى قبل الانتخابات التسويق للصدر بأنه الشخصية أو العدو السابق الذي يمكن للغرب التعامل معه لكي يمثل المرحلة المقبلة في العراق. إلا أن الصدر معروف بتحولاته في مواقفه، منذ صعوده للمشهد العراقي بعد انهيار حكم صدام. وسواء شكل الحكومة أو أسهم في اختيار رئيس الوزراء، فهناك حسابات محلية وإقليمية ودولية تؤثر على ما يجري في العراق، الذي لم يعد مهما في السياسة الخارجية الأمريكية، مثل بقية الشرق الأوسط، وفي ظل الأولويات الجديدة لإدارة جو بايدن الذي أكد على اهتمامه لمواجهة الخطر الروسي والصيني. لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستتخلى عن العراق والشرق الأوسط بشكل كامل، كما ناقشت داليا داسا كي في مجلة «فورين أفيرز» (1/12/2021) وسيكون من مصلحة الولايات المتحدة وإيران أن يكون لهما نقطة اتصال مهمة للحفاظ على مصالحهما، فواشنطن لا تريد العودة إلى العراق كما فعلت عام 2014 بعد سحبها لقواتها عام 2011 وإيران لا تريد خسارة مكاسبها التي حققتها بعد الغزو، وتضم هذه منافع اقتصادية وثقافية واجتماعية وجيوسياسية، وجعلت العراق دولة تابعة لها، ووظيفية تستخدم لخدمة مصالحها، وهذا واضح من الدور الذي بات يلعبه العراق في المحادثات السرية بين السعودية وإيران لحل الخلافات بين البلدين، وبخاصة اليمن.
محاولة شق طريق مستقل
وهذا لا يعني أن العراق قبل بوضعه الجديد، فرئيس الوزراء الكاظمي حاول فتح علاقات بلاده مع الجوار العربي واستقبل العام الماضي قمة إقليمية حضر فيها الأصدقاء والأعداء، كما واستقبل العراق البابا فرانسيس، في تأكيد على أهمية العراق الروحية، لكن هذه التحركات السياسية والروحية لم تكن كافية لتخفيف الظروف الإنسانية عن السكان الذين يعانون من «غياب الدولة» في الخدمات والحماية من تغول الميليشيات التي تمارس سلطتها دون خوف من العقاب. وهو ما جعل العراق مرة أخرى محلا للاهتمام العالمي، ولكن ليس في العراق نفسه، بل وبعيدا على حدود بيلاروسيا- بولندا حيث خاطر عراقيون بحياتهم وتحملوا البرد والصقيع بحثا عن فرصة لعبور الحدود وبدء حياة جديدة، مات بعضهم وعاد آخرون لمواجهة غضب الطبيعة مرة اخرى في الفيضانات التي شهدها العراق، وكأن قدر بلاد الرافدين هو المعاناة والتعب والجوع.
القدس العربي