أنزل الناخب العراقي صنوفاً متفاوتة الشدّة من العقاب بحقّ القوى الحزبية والعسكرية والميليشيات الموالية لإيران، هذه التي استحقت اليوم تسمية «الفصائل الولائية» حتى بات المسمّى يتباهى بها وإليها ينتسب بمزيج من الفخار والغطرسة والتنمّر. وهذا العقاب صنع مفارقة صندوق الاقتراع الأولى، لأنه من جانب آخر منح الكتلة الصدرية الفوز بـ 73 نائباً، من أصل 329؛ رغم أنّ الكتلة هي الجناح الآخر أو الأوّل بالأحرى ضمن المجموع الشيعي العراقي، ورغم أنها ليست موالية تماماً لطهران وإنْ كانت لا تعلن أيّ عداء ملموس للنفوذ الإيراني الطاغي في البلد.
فإذا جاز القول، استطراداً، إنّ جذور العقاب اجتماعية ومطلبية، ذات صلة بانتفاضة العراقيين، فإنّ المفارقة التالية تنبثق من هذه الفرضية تحديداً: ألم يكن التيّار الصدري بعيداً عن حراك الشارع الشعبي، بل معادياً له أحياناً إلى درجة كسر الاعتصامات والتستر على عمليات اغتيال الناشطين؟ صحيح، هنا أيضاً، وكما يساجل البعض، أنّ التيّار قد يكون تغيّر بصدد الانتفاضة تحديداً، وتحوّلت مواقفه في قليل أو كثير نحو احتضان بعض المطالب، أو السعي إلى استيعاب بعضها الآخر أو حتى امتصاصه؛ ولكن هل كان نطاق التغيّر واسعاً بما يكفي، جذرياً بما يُرضي الجموع، متأصلاً في منهاج التيّار على نحو يتجاوز خطاب الحملات الانتخابية والتحشيد المؤقت؟
مفارقة ثالثة، تستحقّ أن يُستمدّ منطق نشوئها من اجتماع خلاصات منطقية داخل المفارقتَين السالفتَين، هي أنّ قوى الانتفاضة الشعبية، على شاكلة «امتداد» و«الكتلة الشعبية المستقلة»، حضرت في صندوق الاقتراع وأفلحت في تصعيد عدد من النوّاب الملتزمين بالمطالب الشعبية أو المستقلين المنضوين في ركابها ضمناً. لكنّ حضورها لا يُحتسَب بعدد النوّاب، أو ما يمكن أن يتحالف معهم من نوّاب كرد ضمن مجموعة «الجيل الجديد»، بقدر ما يصحّ أن يُنتظَر منه على صعيد تشكيل معارضة فعلية مختلفة، شعبية التوجهات وأصيلة الأهداف، تواجه التيّار والولائيين على حدّ سواء من خلال اعتناق شعارات الانتفاضة بادئ ذي بدء.
وإذا كانت المفارقة الرابعة كامنة في طابع التقاسم المذهبي أو الإثني الذي انتهى إليه النظام السياسي العراقي، لجهة منح رئاسة الجمهورية إلى الكرد، ورئاسة البرلمان إلى السنّة، ورئاسة الحكومة إلى الشيعة؛ فإنّ العماد التكويني لذلك التقاسم تحديداً لم يبدأ واهياً وهكذا يتواصل فحسب، بل كذلك لأنّ الصراعات داخل كلّ حصّة، ومعظم الفرقاء ضمن الحصّة الواحدة، محتدمة مستعرة مستحكمة من جهة أولى، ولكن ّ الأخطر فيها أنها من جهة ثانية بمنأى عن مصالح سواد الشعب والقسط الأعظم من حاجاته ومطالبه وجوهر انتفاضته في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019.
رئاسة الجمهورية رهن بالحزبَين الكرديين في الشمال الكردستاني، وهي أشبه بالنزاع منها إلى الخصام بين العائلتَين البرزانية والطالبانية؛ ورئاسة البرلمان لن تسهّل حسمها التفاهمات الانتخابية المؤقتة بين محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، لأنّ الصفّ السنّي يعاني من حال التبعثر والتشتت، التفتت والذوبان؛ وأمّا رئاسة الحكومة فلم تعد كبرى تناقضاتها الاختلاف على شخص مصطفى الكاظمي، بل على عودة نوري المالكي، صاحب الـ34 نائباً، وزاعم الدفاع عن «دولة القانون»… نفسه، بطل اندحار الجيش العراقي أمام «داعش» في الموصل، و«قائد» الجيش الوهمي المسجّل على الورق وجداول الرواتب الكاذبة! هذه، في الوجه الأعمق منها، مفارقة خامسة تندرج من دون عوائق في البنية الفعلية المختلة للمحاصصات المذهبية والطائفية والمناطقية والإثنية التي تفاقمت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بسبب منه جزئياً وتبعاً لولاءات القوى وارتهاناتها الخارجية الإقليمية والدولية.
وقد يكون ما خفي خلف هذه المفارقات الستّ أعظم وأدهى: إذا احتكم الفرقاء إلى السلاح، أو إذا عقدوا صفقات ثنائية وثلاثية ورباعية عمادها التواطؤ على مصالح الشعب العراقي؛ وليس هذا عليهم بكثير، والتاريخ شاهد.
القدس العربي