الدور الروسي في مالي يعيد رسم الأولويات في الساحل

الدور الروسي في مالي يعيد رسم الأولويات في الساحل

تمهد عودة فرنسا إلى اتهام روسيا بنشر مرتزقة فاغنر في مالي للحديث عن مرحلة جديدة في منطقة الساحل الأفريقي والصحراء سواء على المستوى السياسي أو العسكري، فالمنطقة التي كانت تشكل منطقة نفوذ فرنسية تشهد بروز خارطة تحالفات جديدة مع تسلل موسكو هناك، قد تشمل في وقت لاحق تركيا بالتنسيق مع روسيا، وأيضا الصين التي تعتمد على القوة الناعمة للاستثمارات وغيرها.

عادت باريس لتتهم موسكو بنشر مرتزقة من فاغنر في مالي، فيما تدل مؤشرات عدة على تحولات مرتقبة في خارطة التحالفات بمنطقة الساحل والصحراء، وذلك في ظل الأزمات المتلاحقة التي تواجهها فرنسا في مستعمراتها القديمة، وكذلك كنتيجة لشكوك متزايدة لدى حكومات المنطقة في جدية تعامل العواصم الغربية مع تحديات الإرهاب في غرب ووسط القارة الأفريقية.

نزاع بين قوى دولية
رغم العقوبات الإقليمية المسلطة بقوة على مالي، إلا أن المواجهة الحقيقية هي تلك التي تدور في الخفاء بين القوى الدولية المتنازعة على المنطقة، والتي تمثّل اختبارا يعكس طبيعة التجاذبات والصراعات القائمة في مناطق أخرى كالشرق الأوسط وشرق أوروبا، وبخاصة مع قدرة روسيا على التسلل إلى مراكز نفوذ جديدة من خلال الثغرات التي فشل منافسوها الغربيون في تأمينها.

والثلاثاء اتّهم وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان المرتزقة الروس بدعم المجلس العسكري الحاكم في مالي، بذريعة أنهم منخرطون في مكافحة الإرهاب، وقال خلال جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة للجمعية الوطنية الفرنسية، إن مجموعة “فاغنر موجودة لدعم المجلس العسكري، بينما تتظاهر بأنها تحارب الإرهاب”.

وأضاف لودريان “ما يحصل في مالي هو هروب إلى الأمام من جانب المجلس العسكري الحاكم الذي رغم تعهّداته، يرغب في مصادرة الحكم على مدى سنوات وحرمان الشعب المالي من خياراته الديمقراطية”.

جان إيف لودريان: فاغنر موجودة لدعم المجلس العسكري لا لمحاربة الإرهاب

وتابع أن “هذا المجلس العسكري غير القانوني يقترح أن يأخذ الشعب المالي رهينة” على مدى خمس سنوات، في إشارة إلى إرجاء الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في فبراير، والتي يُفترض أن تعيد المدنيين إلى الحكم، ووجه اتهامات صريحة لروسيا بـالكذب بشأن وضع مجموعة فاغنر التي يُشتبه في أنها تعمل بشكل خفيّ لحساب الكرملين، مردفا “عندما نسأل زملاءنا الروس عن فاغنر، يقولون إنهم لا يعرفون عن وجودها”.

واعتبر الوزير الفرنسي أنه “عندما يتعلّق الأمر بمرتزقة هم مقاتلون روس سابقون يحملون أسلحة روسية وتقلّهم طائرات روسية، يكون من المدهش عدم معرفة السلطات بوجودهم”.

وحاولت باريس من خلال تصريحات لودريان، أن تبدي دفاعا مستميتا عن مسار شرعية الانتخابات في مالي، وهو ما يرى فيه معارضوها أمرا جديدا عليها، ففرنسا لم تعتد على أن تكون حريصة على حماية الديمقراطية في مستعمراتها السابقة، وإنما هي تقيس علاقاتها بها بقدر ما تجد لدى الأنظمة ضمانات مستوفية لتحصين مصالحها القديمة والمستجدة.

مرتزقة فاغنر
جاء الموقف الفرنسي الأخير، في سياق التطورات التي تشهدها المنطقة، ولاسيما بعد التبين من نشر المرتزقة الروس داخل مالي، وهو ما يرى فيه مراقبون إقليميون بوادر تحولات في التحالفات وإعادة تحديد للأولويات، ضمن الصراع الدولي الذي بدأت ملامحه تتبلور في غرب أفريقيا والصحراء الكبرى، والذي تدخله روسيا بقوة بالاعتماد على أسلوب “أكثر تواضعا” في التعامل مع المجتمعات الأفريقية، وأقلّ تدخلا في شؤون الدول وفي ممارسات السلطات القائمة.

والأحد الماضي قرر قادة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “إيكواس” إغلاق حدود بلدانهم مع دولة مالي وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات البنكية، وسحب كافة الدبلوماسيين من باماكو، وإلغاء كافة أشكال التعاون معها، كذلك المساعدات المالية باستثناء الأدوية والمواد الغذائية، في سابقة لم تعرف لها المنظمة مثيلا من حيث صرامة العقوبات منذ تأسيسها قبل حوالي نصف قرن.

وفي ختام قمتين عُقدتا في العاصمة الغانية أكرا، قالت المجموعة إنها “ستغلق الحدود مع مالي وتفرض عليها عقوبات اقتصادية شاملة، ردا على التأجيل غير المقبول” للانتخابات التي وعدت السلطات المؤقتة بإجرائها بعد الانقلاب العسكري عام 2020، وتابعت في بيان إنها وجدت الجدول الزمني المقترح للانتقال إلى الحكم الدستوري غير مقبول على الإطلاق، معتبرة أن هذا الجدول “يعني ببساطة أن أي حكومة انتقالية عسكرية غير شرعية ستأخذ الشعب المالي رهينة”.

ويشير محللون إلى أن العقوبات المسلطة على مالي، وإن بدت ظاهريا نتيجة تأجيل الاستحقاقات الانتخابية إلى ديسمبر 2026، إلا أن لا يمكن فصلها عن مواقف العواصم الغربية، وخاصة باريس، بخصوص علاقة المجلس الانتقالي مع موسكو ونشر مسلحي فاغنر في البلاد، وهو الأمر الذي اعتبرته فرنسا طعنة دامية لحضورها في مستعمراتها القديمة، وعن الضغوط المسلطة على دول الجوار بهدف عزل السلطات العسكرية.

وأكّد رئيس المجلس العسكري الحاكم في مالي الكولونيل أسيمي غويتا انفتاحه على الحوار مع المجموعة الاقتصاديّة لدول غرب أفريقيا، وقال في خطاب بثّه التلفزيون الحكومي الاثنين المنقضي إنّه “حتى وإن كنّا نأسف للطبيعة غير الشرعية وغير القانونية وغير الإنسانية لقرارات معيّنة، تظلّ مالي منفتحة على الحوار مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لإيجاد توافق في الآراء بين المصالح العليا للشعب المالي واحترام المبادئ الأساسية للمنظمة”.

◄ يوجد حاليا 1350 جنديا ألمانيا من الجيش الألماني و5000 جندي فرنسي في مالي

وكان وزير خارجية مالي عبدالله ديوب أعلن في الثاني من يناير الماضي أن السلطات المؤقتة في البلاد اقترحت على جيرانها في غرب أفريقيا تمديد الفترة الانتقالية للعودة إلى الديمقراطية، في أعقاب الانقلاب العسكري في 2020، خمس سنوات، وهو ما تم اعتباره انقلابا من الحكومة الانتقالية عن توافقات سابقة على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في فبراير 2022، بعد 18 شهرا على إقدام الكولونيل أسيمي غويتا على إطاحة الرئيس أبوبكر إبراهيم كيتا.

وقام غويتا بانقلاب ثان في مايو 2021 عندما نحّى الرئيس المؤقت الذي خلف كيتا وتولى هو المنصب، لكن الوضع بات مألوفا في ظل الأوضاع التي تشهدها دول إقليمية أخرى، وبخاصة غينيا وتشاد والسودان، وهو ما شكّل عودة للتقاليد الانقلابية العسكرية التي طالما ميزت الصراع على السلطة في القارة الأفريقية.

وأدى اتساع دائرة الإرهاب على أيدي الجماعات الجهادية إلى نشر الفوضى في عدد من دول المنطقة، كما ساهمت أزمة ليبيا المتفاقمة منذ العام 2011 في تفكك منظومة التعاون الإقليمي وفي تشكل أبعاد جديدة لظواهر الإرهاب، وتأجير المرتزقة وتهريب السلاح والاتجار بالبشر على نطاق واسع، وانفلات عقال الصراعات العرقية والقبلية، وخاصة في دول الصحراء الكبرى، ومنها مالي التي شهدت أوضاعها الداخلية تحوّلا جذريّا في عام 2012، بتمرد جماعات إسلامية مسلّحة متطرّفة أدى إلى تأزم الوضع الأمني والسياسي، مما جعل الرئيس المالي يلجأ إلى فرنسا والاستغاثة بالتدخل الفرنسي العسكري، وفي يونيو الماضي أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون انتهاء عملية برخان قريبا مع خفض عديد الجنود الفرنسيين، وإغلاق قواعد عسكرية، وإعادة هيكلة مكافحة الحركات الجهادية مع شركاء أوروبيين.

وفي التاسع من يوليو، قال إن بلاده ستباشر إغلاق قواعدها في شمال مالي قبل نهاية العام، في إطار خفض عدد القوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل، وأضاف أن إغلاق القواعد في كيدال وتيساليت وتمبكتو “سيستكمل بحلول مطلع العام 2022″، مشيرا إلى أن فرنسا تستعد لخفض عدد قواتها في منطقة الساحل، وستبقي ما بين 2500 و3 آلاف عنصر في المنطقة، مقابل 5100 حاليا، مردفا أن هذا التحول الذي سينتهي بإغلاق القواعد العسكرية في شمال مالي، “يستجيب لضرورة التكيف مع الوضع الجديد للمجموعات الإرهابية، ومواكبة تحمل دول المنطقة المسؤولية”.

فرنسا تفقد مصالحها

خارطة جديدة للتحالفات قد تشهد توسعا، فتركيا مؤهلة للتحرك في مالي للاستفادة من الثروات الطائلة والمعادن النادرة بالتنسيق مع روسيا

يعتبر الانسحاب الفرنسي من مالي مؤشرا على فقدان الكثير من المصالح، أهمها المواد الحيوية الخام والدور الاستراتيجي والهيمنة الثقافية وبقايا الطموح الإمبراطوري، مع إعلان واضح عن فسح المجال أمام الجماعات الجهادية للسيطرة على مراكز الحكم والثروة، وكما فتح أمام الروس نافذة مهمة للتوسع في دول الساحل والصحراء، لاسيما بعد تجربة حضورهم في ليبيا، والذي أعطى موسكو مركز ثقل في أي خطة لبلورة الحل السياسي أو لتقاسم النفوذ في الداخل الليبي بامتداداته الإقليمية.

وبينما أصبح الحضور الروسي في مالي أمرا واقعا برغم محاولات السلطات العسكرية نفي ذلك، اتجهت العواصم الغربية للتنديد والوعيد، وأعلنت نحو 15 دولة نشر مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية في مالي بمساعدة موسكو، وقالت هذه البلدان وبينها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا “ندين بشدة نشر مرتزقة على الأراضي المالية”، معبرة عن استيائها “مشاركة حكومة روسيا الاتحادية في تقديم الدعم المادي لنشر مجموعة فاغنر في مالي”.

وكان مصدر في الحكومة الفرنسية قال “نلاحظ ميدانيا اليوم تناوبا في طلعات جوية في الموقع لطائرات نقل عسكرية تابعة للجيش الروسي، ومنشآت في مطار باماكو تسمح باستقبال عدد كبير من المرتزقة وزيارات متكررة لكوادر من فاغنر إلى باماكو ونشاطات علماء جيولوجيا روس معروفين بقربهم من فاغنر”.

◄ العقوبات المسلطة على مالي، وإن بدت ظاهريا نتيجة تأجيل الاستحقاقات الانتخابية إلى ديسمبر 2026، إلا أن لا يمكن فصلها عن مواقف العواصم الغربية، وخاصة باريس،

ووصل إلى مالي ما بين 300 و350 من المرتزقة الروس، وتوجهوا من عاصمة البلاد باماكو إلى مدينة تمبكتو الواقعة في وسط البلاد. وذكرت ذلك صحيفة لوموند الفرنسية الجمعة السابع من يناير، نقلا عن مصادر فرنسية ومحلية لم تسمها.

وأكدت الدول الأوروبية من جديد “تصميمها على مواصلة عملها لحماية المدنيين ودعم مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والمساعدة في إرساء استقرار طويل الأمد”، بالرغم من أن الواقع أثبت العكس خلال السنوات الماضية، حيث دفع الأفارقة لوحدهم ثمنا غاليا لانتشار الجماعات الإرهابية.

وقد ردت الحكومة المالية على تلك المواقف بالقول إنها “تطالب بأن تقدم لها أدلة من مصادر مستقلة” حول انتشار مسلحي فاغنر، مؤكدة “حرصها على التوضيح أن مدربين روسا، مثل بعثة التدريب الأوروبية، موجودون في مالي في إطار تعزيز القدرات العملياتية للقوات الوطنية للدفاع والأمن”، وأوضحت باماكو أنها تطالب “بالحكم عليها من أفعالها وليس استنادا إلى شائعات، وتود التذكير بأن الدولة المالية ملتزمة بشراكة بين دولتين مع روسيا الاتحادية، شريكها التاريخي”.

وبدأ تمرد جهادي في شمال مالي في عام 2012 قبل أن يتوسع في عام 2015 ليشمل النيجر وبوركينا فاسو. وفي عام 2013 تدخلت فرنسا في الصراع، ويوجد حاليا 1350 جنديا ألمانيا من الجيش الألماني و5000 جندي فرنسي في مالي، على الرغم من أن فرنسا تتوقع خفض هذا العدد بمقدار النصف تقريبا بحلول عام 2023.

وبحسب الوضع الحالي، فإن خارطة جديدة للتحالفات قد تشهد توسعا خلال الفترة القادمة، فتركيا مؤهلة للتحرك في مالي للاستفادة من الثروات الطائلة والمعادن النادرة بالتنسيق مع الجانب الروسي، بينما تبحث فرنسا عن دعم أميركي لاستعادة نفوذها في مستعمراتها السابقة التي تكاد تنفلت من بين أصابعها، وتخوض الصين تجربتها المنفردة في سياقات تخصها مع دول القارة الأفريقية، بالاعتماد على نعومة التأثير الاقتصادي من دون عسكرة مباشرة.

والثلاثاء الماضي قال دبلوماسيون إنّ روسيا والصين عرقلتا تبنّي نص اقترحته فرنسا في مجلس الأمن الدولي، لدعم العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا على المجلس العسكري الحاكم في مالي، وهو ما يمثّل فاتحة لجدل قد يستمر طويلا على أكثر من صعيد، فيما ستحاول كلّ من القوى الكبرى فرض رؤيتها بخصوص الأوضاع ليس في مالي وإنما في المنطقة ككل، نظرا لما ستمثله خارطة النفوذ المستقبلي عليها من تأثيرات مباشرة على مناطق أخرى سواء في أفريقيا أو في خارجها.

العرب