القضية الفلسطينية ووهم المجتمع الدولي

القضية الفلسطينية ووهم المجتمع الدولي

منذ نحو عقدين من الزمان اعتمد مجلس الأمن قرارين فقط يتعلقان بالقضية الفلسطينية: القرار 1860 بتاريخ 9 كانون الثاني/يناير 2009 على إثر المواجهات في غزة أثناء عملية «الرصاص المصبوب» التي استمرت نحو 21 يوما وخلفت وراءها آلاف الضحايا والدمار الذي لا يوصف. والقرار الثاني اعتمد بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 2016 حيث تبنى مجلس الأمن القرار 2334 بغالبية 14 صوتا إيجابيا وصوتت سيمانثا باور، سفيرة الولايات المتحدة آنذاك، بـ«امتناع» ما سمح لمشروع القرار بالاعتماد والذي ينص على أن المستوطنات الإسرائيلية تشكل «انتهاكا صارخا للقانون الدولي ويجب أن تتوقف تماما في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية».

منذ اعتماد ذلك القرار الذي اعتبر انتصارا كبيرا للموقف الفلسطيني، ارتفع عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بنسبة 12 في المئة. وحسب تقرير صدر مؤخرا عن مايكل لينك، مقرر حقوق الإنسان المختص بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد كان عدد المستوطنين عام 2016 نحو 400000 مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية، و218000 في القدس الشرقية. وبعد خمسة أعوام يوجد الآن 475000 مستوطن في الضفة الغربية و230000 في القدس الشرقية. واعتبر المقرر الخاص لينك أن هذه الأرقام توضح قبل كل شيء عدم استعداد المجتمع الدولي متابعة قراراته وفرض مواقفه الخاصة فيما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي.
ودعا الخبير الحقوقي المجتمع الدولي إلى محاسبة إسرائيل على احتلال فلسطين الذي دام أكثر من 54 عاما. وقال لينك: «في الذكرى الخامسة لتبني مجلس الأمن القرار 2334 على المجتمع الدولي أن يأخذ أقواله وقوانينه على محمل الجد».
وحذر لينك من أنه بدون تدخل دولي حاسم لفرض المساءلة على احتلال غير خاضع للمساءلة، «فلا أمل في أن يتم تحقيق حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإنهاء الصراع في أي وقت في المستقبل المنظور».

ما معنى المجتمع الدولي؟

لا يكاد يمر يوم من دون أن تسمع مسؤولا فلسطينيا يناشد المجتمع الدولي للتدخل أو يطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته أو بضرورة تحرك المجتمع الدولي. كما أن مصطلح الإجماع الدولي، الذي يكرره المسؤولون الفلسطينيون حول شروط الحل الدائم والعادل والشامل القائم على حل الدولتين قد تبخر منذ زمن. وهذا مثال من بيان وزارة الخارجية الفلسطينية في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني الذي «يحيي الإجماع الدولي الذي يطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ودعم نيل شعبنا لحقوقه الوطنية العادلة والمشروعة». ودعت الوزارة في بيانها إلى»ترجمة القرارات إلى إجراءات عملية كفيلة بتوفير الحماية الدولية لشعبنا ووقف الحرب الشاملة على حقوقه، وإطلاق عملية سلام جدية بإشراف الرباعية الدولية ضمن سقف زمني محدد لإنهاء الاحتلال وتطبيق مبدأ حل الدولتين». إنه الوهم بعينه.
إن تكرار هذه الأسطوانة المشروخة مرة وراء مرة في مناشدة المجتمع الدولي والحديث عن الإجماع الدولي تحمل في طياتها روحا انهزامية اتكالية وتهربا من المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين واستجداء من لا يملك لا الإرادة ولا القوة ليستجيب لطلب المستغيث.
إن فكرة المجتمع الدولي القادر على تطبيق قرارات الشرعية الدولية غير موجودة أيضا لأنه اختصر في خمس عشرة دولة صانعة القرارات من بينهم خمسة أعضاء يملكون حق النقض. ولا يمكن أن يتم تنفيذ أي قرار إذا لم تتوافق المصالح والنوايا والجهود داخل مجلس الأمن وخاصة الأعضاء الخمسة الدائمين. فكم مرة صوت المجلس بأغلبية 14 صوتا إيجابيا ثم يأتي الفيتو الأمريكي أو الروسي أو الصيني فينسف كل مواقف الأعضاء ويرمي بجهودهم وأطروحاتهم في سلة المهملات.
لقد تم تقديم 21 تقريرا لمجلس الأمن منذ اتخاذ قرار وقف الاستيطان المذكور، أكد الأمين العام أو ممثله فيها جميعا أن إسرائيل لم تلتزم بأي من بنود قرار مجلس الأمن وتوجيهاته. فهل يوجد من يشك في نوايا إسرائيل التي لا تخفيها ولا تتستر عليها في إبقاء الاحتلال وابتلاع مزيد من الأرض وزج مزيد من المستوطنين في الأرض الفلسطينية وتضييق سبل عيش الفلسطينيين ليختاروا كرها لا طوعا الهجرة إلى الخارج؟
هل من شك في أن العنف الذي تمارسه إسرائيل وخاصة ما يقوم به المستوطنون ضد الفلسطينيين في تصاعد تراكمي كما ونوعا وخطورة لترسيخ ضم الأراضي الفلسطينية كلها وإبقاء الفلسطينيين في معازل محاصرة تقوم على تأديبهم إذا ما حاولوا التمرد أجهزة أمنية محلية وإسرائيلية. إنها خريطة الطريق التي طرحها دونالد ترامب تنفذ على الأرض بدون الإعلان عنها.

عندما يتوافق المجتمع الدولي

كما أسلفنا عندما يتوافق أعضاء مجلس الأمن الدائمون أولا وغير الدائمين ثانيا يكون هناك حلول وخطوات عملية وإقامة سلام. وسأضرب عددا من الأمثلة على ذلك:
– عند احتلال العراق للكويت عام 1990 تكون موقف دولي داخل مجلس الأمن ملتزم بإنهاء ذلك الاحتلال. اعتمدت القرارات المناسبة بالإجماع في غالبية الأحيان وتحت الفصل السابع وفرض الحصار وطبقت عقوبات شاملة وتم شرعنة استخدام القوة لإنهاء الاحتلال من خلال القرار 678 الذي اعتمد يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1990 ووضعت كافة الإمكانات اللازمة لتنفيذ القرار وبالفعل تم تحقيق ذلك؛
– كان هناك إجماع دولي وموقف موحد في مجلس الأمن لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وهكذا كان وأصبحت دولة جنوب أفريقيا منذ عام 1994 دولة حرة وسيدة وديمقراطية وخالية من نظام الأبرثهايد؛
– توفرت الإرادة الدولية والإجماع حول فصل تيمور الشرقية عن أندونيسا وتم ذلك وأصبحت دولة مستقلة ذات سيادة وانضمت إلى الأمم المتحدة عام 2002؛
– توفرت الإرادة لفصل جنوب السودان عن شماله واعتمدت كافة الخطوات الضرورية من اتفاقيات واستفتاء وقرارات وانضمت دولة جنوب السودان إلى الدول الأعضاء عام 2011؛
– وبنفس الأسلوب والخطوات تم التوافق على حل النزاعات في كمبوديا وسيراليون وليبيريا ونيكاراغوا والسلفادور وهايتي.

عندما تتنافر المصلح وتختلف المواقف

تبقى النزاعات بين الدول أو بين مكونات الدولة الواحدة بدون حل إذا اختلفت الرؤى وتضاربت المصالح وانقسم مجلس الأمن على ذاته واستخدمت دولة واحدة أو أكثر حق النقض «الفيتو» للإطاحة بمشروع القرار فتبقى الأمور على حالها بانتظار حسم الصراع في الميدان أو إبقاء «حالة الجمود» إلى ما لا نهاية. ولنستذكر قضايا عديدة غير قضية فلسطين:
– ظل الصراع في كشمير قائما منذ عام 1947 إلى اليوم رغم اعتماد مجلس الأمن العديد من القرارات التي تطالب بإجراء استفتاء للشعب الكشميري ليقرر مصيره بنفسه فيما إذا كان يريد الاستقلال أو الانضمام لإحدى الدولتين الجارتين الهند أو باكستان. ورغم النزاعات والحروب واضطهاد الملايين من الكشميريين لم تجد القضية حلا لغاية الآن، لأن هناك من يقف وراء الهند وهناك من يؤيد موقف باكستان.
– ظل الصراع في قبرص دون حل حيث أعلن عن قيام جمهورية قبرص التركية في شمال الجزيرة عام 1974 وحتى اليوم فلا الجزيرة موحدة ولا قبرص التركية معترف بها إلا من قبل دولة واحدة هي تركيا. ويبقى النزاع مفتوحا على كافة الاحتمالات رغم العديد من المبادرات ومشاريع الحلول التي لم تلق إجماعا لا من أطراف النزاع ولا من داعميهم داخل مجلس الأمن؛
– ظل النزاع في الصحراء الغربية دون حل منذ عام 1975 رغم أن مجلس الأمن أجاز خطة للسلام عام 1991 تقوم على وقف النزاع وإجراء استفتاء لتقرير المصير يختار فيه الصحراويون بإرادتهم الحرة ما إذا كانوا يفضلون الاندماج في المغرب أو الانفصال وتكوين دولتهم المستقلة. ولأن أطراف النزاع لها من يؤيدها داخل المجلس وخارجه ولا يوجد توافق بين هذه الأطراف يظل النزاع مفتوحا على كل الاحتمالات ومن يعتقد أن الملف قد طوي باعتراف بعض الدول بمغربية الصحراء فهو مخطئ لا محالة؛
– ظلت النزاعات في سوريا وليبيا واليمن قائمة ومتواصلة رغم ما تحويه من مآس إنسانية لأن مجلس الأمن منقسم على نفسه في هذه النزاعات الثلاثة. ولا يغرنك باعتماد قرارات بالإجماع لحل كل أزمة من هذه الأزمات: 2216 (2015) لليمن و2254 (2015) لسوريا و 2259 (2015) لليبيا. صحيح في الحالة السورية استخدم الفيتو الروسي 14 مرة والصيني 10 مرات، لكن في الحالتين اليمنية والليبية لم يستخدم الفيتو إلا أن المواقف متباعدة والدول التي تصوت على قرارات منع إدخال الأسلحة هي التي ترسل الأسلحة والمرتزقة.
كيف تحسم النزاعات خارج إطار مجلس الأمن؟
الجواب بكل بساطة بالنضال والمقاومة وسأعطي مثالين:
– احتلت أرمينيا بين عامي 1989 و 1993 إقليم ناغورنو كراباخ «قره باغ» من أراضي أذربيجان. اعتمد مجلس الأمن 3 قرارات تطالب أرمينيا بالانسحاب لكنها لم تأبه لهذه القرارات بسبب الدعم الروسي والحالة المتردية التي كانت تعاني منها أذربيجان. لكن أذربيجان بقيت تعد العدة وتتدرب وتتسلح إلى أن شعرت بأنها قادرة تماما على حسم المعركة عسكريا وقامت منذ ايلول/سبتمبر2020 بشن هجمات واسعة وكاسحة واستطاعت أن تحرر أراضيها المحتلة من دون تدخل أحد وأجبرت أرمينيا على توقيع اتفاقية استسلام يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
– في 29 شباط/فبراير 2020 وقعت الولايات المتحدة اتفاقية سلام مع حركة طالبان المصنفة لدى وزارتي الخارجية والدفاع بأنها حركة إرهابية. ونصت الاتفاقية على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان قبل 11 ايلول/سبتمبر 2021. بقيت حركة طالبان تقاتل على الأرض وانهار الجيش الذي أسسته الولايات المتحدة ليحمي مصالحها في البلاد وهرع الأمريكيون للانسحاب قبل الموعد، وتفرق عملاء الولايات المتحدة أو هربوا خارج الحدود وطويت صفحة الاحتلال الأمريكية رغم العديد من القرارات الدولية التي تعاقب حركة طالبان.
نضع هذه الحقائق أمام بعض الشرائح من قيادات الشعب الفلسطيني لعلها تتعلم الدروس وتنهي مراهاناتها الخاسرة على ما يسمى «المجتمع الدولي».