سبق الجلسة الأولى للبرلمان العراقي الجديد، التي عقدت يوم الأحد 9 كانون الثاني/يناير 2022 بعض الحوادث والسلوكيات، التي ستصبغ عمر البرلمان المقبل، إذ ظهر نواب «حركة امتداد» وهي كتلة سياسية من المستقلين طرحت نفسها بصفتها حركة ولدت من رحم «انتفاضة تشرين» وهم يتوجهون إلى البرلمان بعربات (التيك توك) التي عدت أحد رموز الحركة الاحتجاجية في تشرين 2019، وقد مرّ نواب «حركة امتداد» بساحة التحرير قبيل ذهابهم إلى البرلمان العراقي في المنطقة الخضراء، ودخلوا الجلسة الأولى بهتافات تمجد الانتفاضة والعراق وثوار تشرين.
أما نواب الكتلة الأكبر في البرلمان، نواب التيار الصدري، فقد حضروا الجلسة الافتتاحية وهم يلتحفون أكفانا بيضاء، لبسوها فوق ملابسهم في إشارة لاستعدادهم للشهادة، وكسلوك رمزي ارتبط بقوة، بمؤسس التيار الصدري آية الله محمد الصدر ومن بعده ابنه مقتدى الصدر وخطباء وفقهاء التيار الصدري كافة، الذين كانوا يرتدون الأكفان في خطبة الجمعة من كل أسبوع، وأطلق نواب الكتلة الصدرية بدورهم هتافات مجدوا فيها الطائفة والتيار وقائده، وقد قُرأت هذه الخطوة بأنها سلوك مفرط في شعبويته لم يكن له داع ، وإنها خطوة غايتها استعراض القوة في البرلمان الجديد.
البرلمان الذي أفرزته انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021 كان قلقا نتيجة الانشقاق الشيعي، الذي وزع قوى البيت الشيعي بين التيار الصدري والإطار التنسيقي للقوى الشيعية، وهو انشقاق لم تفلح اللقاءات التشاورية بين قيادات كتل الإطار والسيد مقتدى الصدر على ردمه والوصول لحل في تجاوز الأزمة بين الطرفين. في حين فاجأت الكتلتان السنيتان (تقدم وعزم) المراقبين بالتوحد قبيل جلسة البرلمان الأولى تحت مسمى كتلة (نتقدم بعزم) ورغم الخلافات بين كتلة تقدم التي يقودها محمد الحلبوسي، وكتلة عزم التي يقودها خميس الخنجر، إلا أن توحدهما أعطى انطباعا بسعي قيادات السنة إلى توحيد أصواتهم للحصول على أكبر مكتسبات في التفاوض المقبل الذي سيسبق تشكيل الحكومة، لكن التوقعات تقول إن خلافات مقبلة بين الكتلتين ستقع لا محالة، نتيجة الصراعات على النفوذ والمصالح، وهذا ما جرى عدة مرات سابقة.
التوترات السياسية التي أفرزتها نتائج الانتخابات وعمقتها المواجهة الأخيرة لتشكيل أغلبية برلمانية، تجعل خطر الحرب الأهلية يخيم على البلاد مجددا
البيت الكردي بدوره شهد توترات كبيرة، فبعد أن قدّم قادة الحزبين الكبيرين قبيل جلسة البرلمان الافتتاحية شعارات براقة، تحدثت عن المصلحة الكردية المشتركة، ووحدة الصف الكردي، وإشراك الآخرين من غير الحزبين الحاكمين في القرارات، والحديث عن ورقة التفاوض الكردية المشتركة، والمطالب والشروط الكردية، إلا أن أولى الأزمات بين أربيل والسليمانية طفت على السطح سريعا في موضوع الاتفاق على مرشح رئاسة الجمهورية، الموقع الذي احتكره حزب الاتحاد الوطني الكردستاني منذ الدورة الأولى للانتخابات العراقية حتى الآن. طالب الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده مسعود بارزاني، بإزاحة برهم صالح عن منصب رئيس الجمهورية، وتقدم بمرشحه هوشيار زيباري لمنصب الرئيس، وكما هو معلوم أن زيباري، وهو خال مسعود بارزاني، وقيادي في حزبه، وشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة الاتحادية لعدة سنوات، ثم شغل منصب وزير المالية، وقد تمت إقالته بعد سحب الثقة في جلسات تحقيق في البرلمان الاتحادي، إذ تمت إدانته بتهم فساد، والمفارقة أنه الآن المرشح الأقوى لمنصب رئيس الجمهورية والمنافس الوحيد لبرهم صالح، الذي طرح اسمه لنيل ولاية ثانية لرئاسة الجمهورية.
تأجل انعقاد الجلسة الأولى، التي حدد موعدها بناء على الشروط الدستورية، ثلاث مرات، إذ تم التأجيل من الساعة 11 صباحا إلى الواحدة ظهرا، ثم الثالثة بعد الظهر، واخيرا عقدت الجلسة الساعة الرابعة عصرا. ترأس الجلسة الافتتاحية أكبر الأعضاء سنا، وهو رئيس أول برلمان عراقي الدكتور محمود المشهداني (73 عاما) وهو شخصية سنية ارتبط اسمه في المشهد السياسي العراقي بخفة الدم والتعليقات الساخرة اللاذعة. التوتر كان السمة المسيطرة على الجلسة التي حضرها 228 نائبا، وتغيب عنها حوالي 100 نائب، وبحسب الدستور العراقي يجب أن يتم انتخاب هيئة رئاسة البرلمان الجديد المكونة من الرئيس ونائبيه في الجلسة الأولى، ثم يصار إلى تحديد الكتلة الأكبر التي سيكلفها رئيس الجمهورية المنتهية ولايته بتشكيل الحكومة، والتي سترشح بدورها رئيس الوزراء، ثم يتم انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. بدأت الجلسة بشكل طبيعي برئاسة رئيس السن وتمت تأدية اليمين الدستورية، بعدها تقدم الإطار التنسيقي الذي يضم أحزابا شيعية مقربة لإيران، بطلب تثبيت كونهم الكتلة الأكبر، مشيرين إلى أن كتلتهم مؤلفة من 88 نائبا. عندها طلب رئيس السن محمود المشهداني تدقيق هذه المعلومة، وحصلت مداخلات، تحولت بسرعة إلى مشادات كلامية، ثم اشتباكات وتضارب، عند هذا الحد تضاربت المعلومات، إذ قال بعض النواب أن رئيس الجلسة تعرض للاعتداء بالضرب، ما توجب نقله للمستشفى، فيما أشار البعض إلى أن الفوضى والتضارب أدت إلى إصابة محمود المشهداني بأزمة قلبية نتيجة التوتر، ونقل على إثرها إلى مستشفى ابن سينا القريب في المنطقة الخضراء. تم اختيار النائب الاكبر سنا الذي يلي المشهداني وهو خالد الدراجي، وترأس الجلسة التي تم فيها انتخاب محمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان، وحاكم الزاملي نائبا أول وشاخوان عبد الله نائبا ثان. وهذه سابقة في تاريخ البرلمان العراقي، إذ يعد الحلبوسي أول شخص يشغل رئاسة البرلمان لدورتين متتاليتين، وتجدر الإشارة إلى أن الحلبوسي في كلمته التي قالها حال تسنمه المنصب كانت ذات دلالات خطيرة، إذ قال ضاحكا «الله يعينني على النائب الأول والنائب الثاني، ويمكن راح أربط لجنة حقوق الإنسان بي» في إشارة لا تخفى على أحد مفادها، أن حاكم الزاملي وشاخوان عبد الله هما من صقور الصدريين والكرد، وربما ستصل الأمور بالحلبوسي للجوء إلى لجنة حقوق الإنسان نتيجة تقييد النائبين لصلاحياته.
لم يمر انتخاب هيئة رئاسة البرلمان الجديد بسلاسة، نتيجة توتر الموقف، وبعد يوم واحد فقط طُعن في دستورية الجلسة، وعملية التصويت البرلماني، إذ أعلنت كتلة الإطار التنسيقي في بيان رسمي صدر يوم 10 يناير الجاري، أن الجلسة كانت غير قانونية في ظل غياب المشهداني، وتم اللجوء للقضاء لحسم الخلاف. أعلن المركز الإعلامي للمحكمة الاتحادية؛ أن «النائبين محمود المشهداني وباسم خشان قدما طعنين أمام المحكمة الاتحادية خلاصته، أن الجلسة الأولى لمجلس النواب شابتها مخالفات دستورية ومخالفات للنظام الداخلي للمجلس». وطالب مقدما الطعنين، المحكمة الاتحادية، بإصدار أمر إيقاف الإجراءات كافة، التي اتخذها مجلس النواب ورئيس المجلس ونائبيه، لحين حسم الدعوى التي أقاماها بخصوص الطعن في دستورية الجلسة الأولى، وكل الإجراءات القانونية التي صدرت فيها، بما في ذلك إجراءات انتخاب الرئيس ونائبيه. النتيجة كانت قرار المحكمة الاتحادية، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، يوم 13 يناير الجاري، تعليق عمل هيئة رئاسة البرلمان مؤقتاً لحين حسم الدعوى القضائية بشأن شرعية ما جرى في الجلسة البرلمانية.
أشار مدير المركز الفرنسي للأبحاث حول العراق عادل باخوان، في مقال له نشره موقع فرانس 24 جاء فيه؛ إن «التيار الصدري وحلفاءه مصممون على الذهاب إلى النهاية في هذه العملية، أي أن يفرضوا مرشحهم لمنصب رئيس الوزراء، وأن يشكلوا بمفردهم حكومة أغلبية، وسيجد اللاعبون الآخرون أنفسهم مستبعدين بحكم الأمر الواقع من العملية». كما يعتبر بعض المراقبين أن ما حصل في الجلسة الاولى انتصار لمقتدى الصدر والسير باتجاه تشكيل حكومة أغلبية سيقودها عبر التحالف مع مسعود بارزاني وائتلاف السنة الموحد (نتقدم بعزم) وستكون النتيجة التي يمكن قراءتها في المشهد العراقي الحالي هي، أن التوترات السياسية التي أفرزتها نتائج انتخابات أكتوبر، وعمقتها المواجهة الأخيرة لتشكيل أغلبية برلمانية، تجعل خطر الحرب الأهلية يخيم على البلاد مجددا.
القدس العربي