تحت عنوان: “المعطى الجديد في الشرق الأوسط قد يحيي الاتفاق حول النووي الإيراني”، قال موقع “ميديابارت” الاستقصائي الفرنسي إن الرئيس الأمريكي جو بايدن قرر مباشرة بعد انتخابه إحياء الاتفاق الدولي مع طهران الذي انسحب منه سلفه دونالد ترامب، وهو هدف ذو أولوية بالنسبة لإيران التي تسعى لرفع العقوبات الدولية عنها.
فمن دون قول ذلك، وحتى قول عكس ذلك في بعض الأحيان، بدأ القادة الإسرائيليون في الاعتراف بأن الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط آخذة في التغير. لم تعد التحالفات في المنطقة هي تلك التي شكلها ترامب تحت تأثير نتنياهو واللوبي الإنجيلي وصقور الحزب الجمهوري. فقد حلت شراكات جديدة يمليها سياق اقتصادي وجيوسياسي مختلف محل البنية الدبلوماسية التي أنشأتها واشنطن في السنوات الأخيرة على أساس تحالف بين إسرائيل ودول خليجية في مواجهة التهديد الإيراني.
وهذا التطور، الذي قد يؤدي إلى إبرام اتفاقية نووية جديدة مع إيران -ربما تختلف اختلافا جوهريا عن سابقتها التي تم التوقيع عليها في عام 2015- ينطوي على مخاطر قوية تتمثل في تنظيم توازن قوى إقليمي على أساس دائم. من أفغانستان إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ووزير الدفاع إيهود باراك من أوائل من لمّح إلى هذا التغيير وتحليل بعض عواقبه المحتملة في بداية ديسمبر الماضي، حيث استنكر في عريضة نشرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” فشل سياسة بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، التي استندت إلى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وتشديد العقوبات على طهران، وهو ما دفع إيران إلى تصعيد نحو العتبة النووية. كما يلقي باراك باللوم على نتنياهو لأنه أعمته ثقته في التحالف مع ترامب لدرجة أنه أهمل إعداد خطة بديلة في حال اقتربت طهران من الأسلحة النووية.
وأشار “ميديابارت” إلى أن إيهود باراك، الذي أصبح رجل أعمال ثريا منذ تركه الجيش والسياسة، لبدء أعمال الحشيش الطبي والصناعة الإلكترونية والتكنولوجيا الطبية المتقدمة، بات اليوم، وفقا لأحد أقاربه “أحد أشد المعارضين لنتنياهو. خاصة أنه لا يخضع للمساءلة أمام أحد ويحترمه جزء من اليسار، كما يتضح من نجاح حسابه على تويتر، 200 ألف متابع”.
ومع ذلك، فهو يظل منتبها جدا لما يحدث ويقال بين رفاقه السابقين في السلاح. يتجلى ذلك من خلال التقاربات بين أطروحته في عريضته ومحتوى الدراسة التي نشرتها حركة “ضباط من أجل أمن إسرائيل” (CIS) في نيسان 2021.
هذه الحركة، التي تضم ما يقرب من 300 من كبار ضباط الجيش والشرطة السابقين بالإضافة إلى نظرائهم من الموساد (المخابرات الخارجية) والشين بيت (المخابرات الداخلية)، دافعت دائما عن حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس التعايش بين دولتين إسرائيلية وفلسطينية.
في الوثيقة التي صدرت في أبريل، نصحت حركة “ضباط من أجل أمن إسرائيل” الحكومة الإسرائيلية بدعم جهود جو بايدن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران. من وجهة نظرهم، فإن اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة التي أبرمت في عام 2015 بين الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وإيران، تسمح بإيقاف مسيرة إيران غير المنضبطة نحو العتبة النووية، لأنها نصت، مقابل الرفع التدريجي للعقوبات الأوروبية والأمريكية ضد طهران، على وقف تخصيب اليورانيوم من قبل إيران، تحت إشراف الأمم المتحدة. ويرون أن هذه الاتفاقية سمحت بالحصول على سيطرة دولية موثوقة على البرنامج النووي الإيراني.
ويرى أعضاء حركة “ضباط من أجل أمن إسرائيل” أن تقليص نطاق المبادرة النووية الإيرانية وإعادة فرض الرقابة الصارمة على أنشطتها هما من أكثر الأولويات إلحاحا اليوم. وأن العودة إلى خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) ستحقق هذه الأهداف.
بعبارة أخرى، في نظر باراك و”ضباط من أجل أمن إسرائيل”، فإن رئيس الوزراء الحالي نفتالي بينيت سيكون حكيما، فيما يتعلق بمسألة التهديد الإيراني وأمن إسرائيل، بالانفصال بوضوح عن سلفه بنيامين نتنياهو، الذي ضاعف طيلة 15 عاما في السلطة التسريبات الحقيقية أو الكاذبة في وسائل الإعلام والتي تعلن عن هجوم عسكري إسرائيلي وشيك على البنية التحتية النووية الإيرانية التي تشكل “تهديداً وجودياً” لإسرائيل.
بعد أشهر قليلة من مغادرته الموساد في عام 2002 حيث أمضى 30 عاما من حياته، كان إفرايم هاليفي قد أوضح أن “الخطاب الحربي حول إيران هو سياسة وليس استراتيجية”. وقال: “أنا لا أستهين بأي حال من الأحوال بالمخاطر النووية الإيرانية، لكنك لن تسمعني أقول إن قنبلة ذرية إيرانية محتملة تشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل”.
في الوقت نفسه، توصل إيتان بن إلياهو، رئيس أركان سلاح الجو الإسرائيلي السابق، إلى نتيجة مماثلة بعد تحليل يستند إلى تجربته كجندي. قصف مواقع رئيسية لبرنامج إيران النووي؟ بالطبع هو خيار للحكومة الإسرائيلية. إذا لزم الأمر، يمكننا القيام بذلك، كما أكد اللواء الذي تحول إلى رجل أعمال ناجح منذ تقاعده من الطيران العسكري في أبريل عام 2000. ولكن الأخير شدد على ضرورة مواجهة حيازة إيران يوما ما لسلاح نووي وكيفية استخدامه ضد إسرائيل.
الصواريخ الإيرانية تشكل تهديدا متزايدا
تعليقات إيتان بن إلياهو، ومثلها تعليقات إفرايم هاليفي، تعود إلى 20 عاما لم تطور إيران خلالها بنيتها التحتية النووية ودفنها وحمايتها بقوة فحسب، بل قامت أيضا بتوسيع إمكاناتها العسكرية وتحالفاتها في لبنان وسوريا واليمن وقطاع غزة والعراق ودعم وتسليح الميليشيات المجهزة بآلاف الصواريخ. هذه الأسلحة المجهزة الآن بـ”مجموعات توجيه” دقيقة، والتي تضاف إلى ترسانة الصواريخ الباليستية أو صواريخ كروز والطائرات الإيرانية بدون طيار، يمكن أن تصل في غالبيتها إلى إسرائيل، يؤكد “ميديابارت”.
وحتى لو طور الجيش الإسرائيلي وعزز شبكة الكشف والاعتراض المضادة للصواريخ، فإن تهديد الصواريخ الإيرانية يعتبر خطيرا للغاية من قبل هيئة الأركان العامة. وبحسب التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الجنرال كينيث ماكنزي جونيور لمجلة “نيويركر”، فإن هذه الصواريخ تشكل الآن “تهديدا مباشرا للشرق الأوسط أكثر من تهديد البرنامج النووي الإيراني”. ويبدو أن قادة المنطقة قد فهموا، وباتوا مقتنعين الآن بأنهم لم يعودوا قادرين على الاعتماد على حماية الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انسحابها من أفغانستان الذي فسح المجال لعودة طالبان.
ومن المفارقات أنه عندما كانت إيران تزيد إنتاجها من اليورانيوم المخصب وتحصل على ترسانة تقليدية حديثة وفعالة، وهو تهديد مسبق، بدا جيرانها فجأة أنهم اعتبروا ذلك أكثر سهولة أو أقل خطورة. وكأن تطور ميزان القوى العسكري أعطى الدبلوماسية كل فرصها في سنوات قليلة.
اتفاقيات جديدة مع طهران
الأدلة على هذا التغيير كثيرة: توقيع الإمارات اتفاقية مع طهران في شهر نوفمبر الماضي تسمح للصادرات الإماراتية إلى أوروبا بالمرور عبر إيران وتركيا، مما يقلل من مدة النقل من 20 يوما إلى أسبوع واحد. وقام مستشار الأمن الإماراتي طحنون بن زايد، شقيق رجل الدولة القوي محمد بن زايد بزيارة إلى طهران، حيث من المقرر أن يزورها محمد بن زايد قريباً، مما يكسر محرماً دام خمس سنوات. كما وقّع البلدان اتفاقية بحرية بشأن أمن الخطوط الملاحية في الخليج تهدف إلى حماية السفن الإماراتية من هجمات المتمردين اليمنيين المدعومين من طهران.
السعوديون، من جانبهم، شاركوا بالفعل في جلستي مفاوضات مع مبعوثين إيرانيين في العراق وعقدوا جلسة ثالثة في الأردن. وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، المقطوعة منذ عام 2016، قيد المناقشة. فصحيح أن السياسة الإقليمية الهجومية للغاية التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عام 2015 واجهت سلسلة من الأحداث، بما في ذلك الإخفاقات الكارثية التي أجبرته على الحد من طموحاته، وفق “ميديابارت” دائماً.
إعادة توزيع الأوراق حتى سوريا
أما الحصار الذي فرضته المملكة العربية السعودية وحلفاؤها الخليجيون في عام 2017 على قطر، فلم يقاوم التطور الجيوسياسي للمنطقة والمعطى الدبلوماسي الأمريكي الجديد الذي أعقب هزيمة دونالد ترامب في يناير عام 2021، حيث أعلنت الرياض عن إعادة فتح السفارة السعودية في الدوحة التي ظلت مغلقة لخمس سنوات. وقد فسر دبلوماسيون في المنطقة هذه البادرة من محمد بن سلمان على أنها إشارة إلى حسن النية الموجهة إلى جو بايدن، الذي أكد خلال حملته نيته “إعادة تقييم علاقته في المملكة العربية السعودية”.
وبالنسبة لقادة قطر، الذين يشاركون جيرانهم الإيرانيين في استغلال أكبر حقل للغاز تحت الماء على هذا الكوكب، فإن المصالحة مع الرياض هي موضع ترحيب، لكنها لا تعني أي تغيير في سياسة حسن الجوار مع إيران.
وتظهر إعادة توزيع الأوراق أيضا في أنقاض سوريا، حيث تلعب روسيا الآن دورا مركزيا، على الأقل على المستوى العسكري، بمساعدة إيران وميليشياتها وأعوانها. فقد وافق الحلفاء المخلصون للولايات المتحدة، المستفيدون من الكرم السعودي، مصر والأردن، الموقعين على اتفاقيات السلام مع إسرائيل، على عبور الهيدروكربونات التي تم توفيرها لإفلاس لبنان عبر سوريا. وأن تدفع لدمشق 8 في المئة من قيمة المنتجات المسلمة، وبالتالي دعم النظام السوري دون الاعتراف به.
وأعادت البحرين والسودان والإمارات، الشركاء في التحالف المناهض لإيران إلى جانب إسرائيل، فتح سفاراتها في دمشق. يُقال إن مصر والأردن على استعداد لدعم طلب عودة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية، ويمكن حتى اتخاذ قرار بشأن العودة في القمة التي ستعقد في الجزائر في مارس المقبل.
في فيينا.. استئناف المفاوضات
وفي سياق إقليمي معطّل، بدأت مفاوضات معقدة في فيينا لإعادة إطلاق اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة. بالنسبة لإدارة بايدن، التي أذلتها النهاية المشينة للتدخل الأمريكي في أفغانستان، فإن إنقاذ هذه الاتفاقية التي أبرمها أوباما واعتبرها حينها من أهم اتفاقيات عدم الانتشار في ربع القرن الماضي هي هدف رئيسي. بالنسبة للنظام الإيراني، الذي نجا من “الضغط الأقصى” لسنوات ترامب ويسعى إلى رفع العقوبات الدولية لإحياء اقتصاده الذي مزقته الأزمة، فهو أيضا هدف ذو أولوية.
ويبقى الاتفاق على نطاق المناقشات. هل هي مسألة عودة محضة وبسيطة إلى الاتفاق الأصلي أم إبرام اتفاقية “معززة”؟
نصت اتفاقية عام 2015 على وقف تخصيب اليورانيوم الخاص بإيران فوق 3.67 في المئة لمدة 15 عاما، والحد من مخزوناتها من اليورانيوم والبلوتونيوم وتقليص مجموعة أجهزة الطرد المركزي، وكل ذلك تحت سيطرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحصل إيران على رفع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على مجالات الطاقة والنقل والتمويل.
بين الخيارات المفتوحة، يبدو أن اختيار مفاوضي فيينا لم يتم بعد. لكن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن حذر قائلا: “إذا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، فإن الولايات المتحدة ستتجه إلى خيار آخر”. بالنسبة إلى نظيره الفرنسي جان إيف لودريان فإن “الوقت ينفد”، أما نظيرهما الإسرائيلي، يائير لابيد، الذي سيصبح رئيسا للوزراء في عام 2023 إذا نجا التحالف الحالي، فقد أعلن أنه “مستعد لدعم صفقة إذا كانت صفقة جيدة”. ولدى الجانب الإيراني، أعرب أحد مستشاري وزارة الخارجية عن أمله في التوصل إلى اتفاق قبل ذكرى الثورة الإسلامية عام 1979 في 11 فبراير المقبل.
القدس العربي