حرب في أوروبا، عبارة تقوض كل ما فكرنا به. نعم، كانت حروب يوغسلافيا وفظائعها نتيجة تفكك الكتلة الشرقية. وبالطبع، روسيا نفسها اتخذت سلسلة خطوات عسكرية قتالية بين حرب الشيشان الثانية وجورجيا. لكن في المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يقف جيشان نظاميان، واحد يعد نحو مليون جندي والثاني أكثر من ثلاثة ملايين، مع عشرات آلاف الآليات المدرعة، وبالطبع قدرة نووية في الجانب الروسي. هذه ليست حرباً أهلية خرجت عن السيطرة مثلما في البوسنة، وليست نزاع حدود أو سيطرة على حكم ذاتي مارق. إذا ما تحقق هذا الغزو، مثلما قدر السي.أي.ايه أمام الرئيس الأمريكي في نهاية الأسبوع، فهذا هو الأمر الحقيقي: محاولة لإعادة تصميم الحدود في القارة، بواسطة قوة تدميرية فتاكة لأحد الجيوش القوية في العالم. وفي واقع الأمر، محاولة للدفع إلى الوراء بإنجازات الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، “الكارثة الأكبر في جيلنا”، على حد تعبير فلاديمير بوتين.
ولكن قبل الإعلان عن أن الحرب مسألة ساعات، يجب أن ندرك ما يحصل في هذه اللحظة، وهذا استثنائي. يدير الأمريكيون حرباً نفسية واسعة بواسطة الإعلام الدولي حيال الروس، فهم يكشفون معلومات استخبارية بثبات؛ عندما يقول الكرملين للوحدات العسكرية أن تستعد للغزو، يعلن البيت الأبيض عن ذلك. وعندما يفكرون بتمثيل هجوم زائف لأوكرانيا كمبرر للحرب، تقف الصحافة في الولايات المتحدة في تحفز. الأمريكيون، وفي واقع الأمر الناتو عموماً، يروون للعالم عن كل لواء ينقل إلى الشرق.
ثمة أهداف عدة من خلف هذه العلنية: الإيضاح لموسكو بأن مخططاتها مكشوفة تماماً لأسرة الاستخبارات الأمريكية، لوضع المسؤولية الدولية عن غزو محتمل على أكتاف بوتين، والتأكد من أن حلفاء الولايات المتحدة يدركون التصعيد المرتقب، لإثارة ضغط محتمل داخلي في روسيا، وللتسبب للاقتصاد الروسي بأضرار منذ هذه اللحظة، وذلك من أجل دفع الرئيس الروسي، على الأقل، أن يقلص أهداف الغزو. أما الكرملين، من جهته، فينثر ضباباً خاصاً به.
أمس، قال وزير الخارجية الروسي الماكر سيرجيه لافروف، إنه عندما ينتهي كل شيء ويعود الجنود الروس إلى قواعدهم دون حرب، يمكن للغرب أن يعلن عن “النصر” ويظهر وكأنهم هزموا روسيا. لقد كانت هذه طريقته الذكية للقول بعدم حدوث حرب. وثمة شكوك في الطرف الآخر أيضاً: فالفرنسيون مثلاً لم يخلوا أمس طاقم سفارتهم (ولا إسرائيل أيضاً، بالمناسبة) شاكين في نشوب حرب هذا الأسبوع. رغم هذه الخلافات الطفيفة، فإن الناتو، ذاك الجسم الذي أخذ صورة الإمبراطورية الرومانية المقدسة للقرن الواحد والعشرين، أصبح ذا صلة أكثر من أي وقت مضى. الحلفاء في داخله منسقون، ويهددون برد قاطع، ويعززون وجودهم في الأهداف التي تليالإمبراطورية الروسية المحتملة – دول البلطيق، وبولندا وشرق أوروبا بعامة.
وتطل فوهات المدافع في ظل هذا الضباب. في 12 تموز، وضع زعيم روسيا حجته التاريخية لاحتلال أوكرانيا في مقال طويل نشره الكرملين، ولا يزال موجوداً في موقعه على الإنترنت. فقد اعتمر بوتين تاج المؤرخ، وذكر بأن كييف كانت مركز المملكة الروسية القديمة واقتبس من الأمير أولغ، (النبي)، الذي قال عن عاصمة أوكرانيا الحالية إنها “أم المدن الروسية كلها”. الروس والأوكرانيون شعب واحد، أوضح بوتين، “وهذه مأساتنا وسوء حظنا المشترك”، كتب، إن سوراً قام بين روسيا وأوكرانيا نتيجة أخطاء ارتكبت، ولكن ثمة “جهوداً مشتركة” من تلك القوى التي حاولت دوماً ضعضعة وحدتنا”. في نظره، بالطبع، هذا هو الغرب الكريه. من الجدير قراءة هذه الأقوال، وليس الجغرافيا السياسية التي تعلق الحرب للحاجة إلى الأراضي الأوكرانية الخصبة، ولتوريد المياه لشبه جزيرة القرم أو بخريطة النجوم حول خاركوف. فهذا ليس القرن الـ 16، وإن غزو أوكرانيا، كما يعرف بوتين أيضاً، سيضر بالاقتصاد الروسي ولن يساعده. وهو مستعد، على ما يبدو، للنظر على الأقل في هذا الخبر، في كل حال.
بوتين يتجاهل ما يريده الأوكرانيون أنفسهم. مثل دول أخرى في شرق أوروبا، فإن تطلع أوكرانيا إلى الارتباط بالغرب لا ينبع من أكاذيب مناهضة لروسيا، بل من نجاح وازدهار موجودين في غرب أوروبا وفي دول الشرق التي تبنت الحلف مع الغرب. وليس هذا اجتذاب إلى الغرب فقط، بل نفور من موسكو: الجوع الكبير، والمأساة الوطنية الأوكرانية التي توفي فيها ملايين الأشخاص في الثلاثينيات، كانت نتيجة مباشرة لأوامر خرجت من كرملين ستالين. تكتب المؤرخة آن افلباوم عن ذلك: “خطوة إثر أخرى، بواسطة لغة بيروقراطية وتعريفات قانونية قفراء،بادرت القيادة السوفياتية بمساعدة زملائهم الأوكرانيين الخائفين، إلى جوع في داخل الجوع، مصيبة وجهت خاصة إلى أوكرانيا والأوكرانيين”. شعب واحد، يكتب بوتين. ليس بالنسبة لمعظم الأوكرانيين. وهكذا ينطوي إجمال التاريخ المشترك في لحظة ملموسة من الخوف. إن حجوم الغزو، إذا ما تحقق، ليست معروفة. فهل سيحتل الجيش الروسي شرق أوكرانيا حتى الدانوب ويضمه، أم سيواصل الطريق إلى حدود رومانيا وبولندا وهكذا يعيد تصميم صورة القوة الأوروبية. الحقيقة أنه ليس واضحاً لكثير من المراقبين على الإطلاق ما إذا كان بوتين اتخذ القرار النهائي، رغم المحاولة الأمريكية لدفع روسيا إلى عاصمة دولية حتى قبل أن تقتحم الدبابة الأولى السياج المتقدم.
كلنا نفضل عدم التصديق. خطر جسيم يهدد النظام العالمي كله، ذاك الذي بني بجهد عظيم بعد الحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى بعد انهيار سور برلين. منذ زمن بعيد والأمم والجماعات الأيديولوجية وزعماء الدول والطبقات بين السكان الثائرين ضده والصدوع تتعاظم. الاختبار الأول الأكبر سيكون في أوكرانيا، ولن يكون الأخير.
القدس العربي