تعددت المبادرات لتسوية الأزمة السورية، ليس بينها مبادرة واحدة حجزت لأوروبا دورا مهما فيها. صارت أوروبا، وإن ببعض المبالغة، مثل الأمة العربية، جماعة إقليمية بلا دور تلعبه فى الأزمات الدولية والإقليمية الحادة، حتى فى أزمات تخصها يؤذيها استمرارها ويفيدها تسويتها. ممثل عربى أو آخر قد يظهر فى الصور ولكنه يظهر لأنه طرف فى القضية أو سبب فيها. نستطيع بقدر من الصبر فهم الأسباب التى جعلت أوروبا، الجماعة والاتحاد، تتنازل عن كثير من أدوارها فى النظام الدولى، وتنكفئ على نفسها دولة دولة أو أزمة أزمة. أما فهم الأسباب التى جعلت العرب، أمة ودولا وجامعة عربية، يتخلون ليس فقط عن أدوار يلعبونها بل عن هويتهم، فهذا يحتاج إلى صبر أطول. أخشى أن نتوصل إلى هذا الفهم بعد فوات الأوان، ساعتها ومع استمرار التدهور بمعدلاته الراهنة تكون الأمة العربية قد دخلت فى اختصاص علماء الأجناس وحفنة من المؤرخين، ولا تقع فى حساب أو اهتمام علماء السياسة والعلاقات الدولية. أشم فيما أكتب اليوم رائحة تشاؤم وأقرأ فى كتابات أكثرنا نبرة تشاؤم، وأعترف هذه المرة أنها مبررة بدليل هذا الإنفاق المسعور على شراء الأسلحة والانزلاق نحو حروب محلية وصراعات قوة داخلية لا تبشر بنهايات قريبة وبدليل هذه القروض التى هى فى حقيقة أمرها اقتطاع من احتياطيات كانت محجوزة لحماية الجيل القادم من إسراف أبناء الجيل الراهن وإهماله وفساد بعضه.
***
تجتمع أسباب انحسار دور أمتنا العربية ودولنا جميعها حول محور واحد، هو فى رأيى سوء إدارة شئون بلادنا وفساد الحكم فى أغلبها وتدهور القيم وخرق الحقوق والحريات. أسهل نسبيا فهم أسباب انحسار نفوذ أوروبا ودورها. هذا النفوذ المتقلص الذى أصبحنا نعايشه ونراه فى كل صورة لمنبر يناقش أزمة عربية أو شرق أوسطية، أحيانا نرى على المنبر بين الجالسين سيدا أو سيدة تجلس أو يجلس وأمامها أو أمامه علم الاتحاد الأوروبى، ولكن وجود الشخص والعلم صارا لا يعنيان الكثير لمراقب يبحث عن دور لأوروبا فى مبادرة لتسوية جانب فى صراع عربى إسرائيلى أو تهدئة الأطراف المتحاربة مع الأرض السورية أو وقف نزيف الدم فى اليمن. صحيح أن هذا المراقب لن يجد للجماعة العربية، ممثلة فى جامعتها أو فى أى تنظيم أو حلف إقليمى، دورا مؤثرا فى أى أزمة آسيوية أو أفريقية بل وفى كثير من الأزمات الحديثة، إلا أنه يظل واضحا أن العرب لم يكونوا يوما طرفا فى القيادة الدولية، ولم يكن لهم باع كبير فى تقرير مصير الشعوب، باستثناء فترات متناثرة، يبدو أنها كانت استثناء فى قاعدة هى الآن راسخة.
***
صعب أن نقرر أن الأوروبيين المعاصرين يتسمون بسمات وطموحات الأوروبيين الذين حملوا رسالة وعبء إقامة وحدة أوروبية. عاش الأوروبيون قبل خمسين عاما أو ستين فى حلم ثلاثى الأبعاد: الرخاء والأمن ومنظومة قيم إنسانية متحضرة. المقاييس أغلبها تشهد على أن الحلم بأبعاده المثلثة تحقق إلى حد كبير فى الدول التى قادت عملية الوحدة. هذه الدول التى أطلق عليها دونالد رامسفيلد عبارة أوروبا القديمة، أو العجوز، إمعانا فى التعبير عن كراهية المحافظين الجدد الأمريكيين لها. هذه الأوروبا القديمة حققت درجة عالية من الرخاء مشفوعة بدرجة لا بأس بها من الرعاية الاجتماعية، فتفادت بدرجة أو بأخرى تداعيات تفاقم ظاهرة اللامساواة التى رافقت صعود الرأسمالية فى شكلها النيوليبرالى وأزماتها الخانقة.
احتمى الأوروبيون بنظم متقدمة من الرفاه، فلم ينتبهوا إلى الشيخوخة التى تسربت متدرجة حتى تمكنت من مجتمعاتهم فهيمنت، وإلى فساد الشركات الأعظم الذى استطاع أن يتمدد فى الاقتصادات الأوروبية. أضف حقيقة أن صعود الصين، رغم تدرجه وشفافيته، باغت الأوروبيين فلم يستعدوا له الاستعداد المناسب. احتمى الأوروبيون أيضا بشبكة دفاعات أمريكية وفرت عليهم جهد وتكلفة إقامة نظام أمنى أوروبى متكامل وباستقلالية تكسب له الصدقية اللازمة فى النظام الدولى. هنا أيضا وكما حدث فى أعقاب الأزمة المالية الأمريكية، انكشفت أمام الأوروبيين حقيقة الحالة الأمنية كما انكشفت حقيقة أوضاعهم الاقتصادية. من ناحية أخرى حلت الأزمة الأوكرانية فكانت بمثابة الجرس الذى نبه الأوروبيين إلى عودة الصراع على قيادة القارة الأوروبية، فى غياب أمريكا.. المهيمن الخارجى، وإلى مغزى عودة هذا الصراع على أمن القارة والأمن الدولى بصفة عامة.
***
من جانب آخر، أفاق الأوروبيون القدماء، أى سكان أوروبا الغربية، على وضع لم يكن فى حسبان الآباء المؤسسين للوحدة الأوروبية، كان فى حسبان هؤلاء القادة أن غرب أوروبا قد اختار «الاعتدال والوسطية الأيديولوجية» طريقا ثابتا يسلكه نحو الوحدة، لا فاشية ولا مغالاة رأسمالية ولا شيوعية ولا توجهات إمبراطورية أو توسعية. الآن تنتشر فى القارة تيارات على اليمين تمارس أدوارا سياسية فى بعض الدول الأوروبية مدفوعة بظروف هجرة واسعة من أفريقيا وآسيا. ومدفوعة أيضا بفورة فى النعرات القومية تقودها قوى شبابية تطالب باستقلالية أكبر للدولة الأوروبية فى مواجهة هيمنة المفوضية فى بروكسل.
معروف أيضا أن ظروف الفجوة بين رخاء شمال أوروبا وتواضع النمو فى جنوبها دفعت إلى السطح بتيارات يسارية هى معتدلة حتى الآن، ولكنها تنمو وتتمدد بسرعة إلى حد أنها اقتربت من تولى مقاليد السلطة السياسية فى أكثر من بلد، تولتها بالفعل فى اليونان وقد تتولاها قريبا فى إسبانيا وإيطاليا وربما المملكة المتحدة.
***
لم يكن رامفسيلد مخطئا تماما عندما تنبأ بمشكلات تطرحها دول شرق أوروبا، أو أوروبا الجديدة كما أطلق عليها. كان مجرد الانضمام المتأخر من جانب هذه الدول للاتحاد الأوروبى سببا لإثارة قضايا ومشكلات شديدة التعقيد. الآن وبعد عقدين أو ثلاثة من العيش تحت مظلة الاندماج الأوروبى يبدو واضحا أن المشكلات فى ازدياد، بل كدت أقتنع بأن أزمة الهجرة «الإسلامية» الأخيرة كانت كالمجهر الذى أبرز تفاصيل لم يكن العالم الخارجى على دراية بها، أغلبها يؤكد حقيقة أن أوروبا مازالت من جزءين، وربما أجزاء متعددة، وأن ما تحقق من اندماج مهدد بالانحسار، وأن، وهو الأهم، فراغا فى القيادة بدأ يخيم بأشباحه على القارة. غير خاف على الأوروبيين، أو علينا، أن ألمانيا تحملت فوق قدرتها على التحمل مسئوليات قيادة القارة فى ظروف هى الأسوأ منذ حروب البلقان التى انتهت بخريطة سياسية جديدة لدول الإقليم، غير خاف أيضا أن ألمانيا ذاتها صارت فى حاجة ماسة لاستعادة حيوية داخلية وعملية تطهير تعيد للاقتصاد الألمانى المعتمد على التصدير سمعته ومكانته.
***
أوروبا غائبة عن أزمات الشرق الأوسط. نستطيع أن نجد لهذا الغياب مبررا أو آخر، ولكننا لا نستطيع أن نقلل من خطورة استمرار هذا الغياب ليس فقط على أمن الشرق الأوسط وبخاصة بعد أن صار لتركيا وإيران فى نظر الأوروبيين حق ودور فى صنع مستقبل هذا الإقليم، ولكن أيضا فى التأثير على أمن أوروبا ومستقبل الغرب بأسره..
جميل مطر
صحيفة الشروق المصرية