هل يواجه بوتين مصير نيقولا الثاني؟

هل يواجه بوتين مصير نيقولا الثاني؟

مع بداية التصعيد بين الجانبين الروسي والأوكراني، شاعت بعض التحليلات التي ذهبت إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يجرؤ على اجتياح أوكرانيا، لأن نتائج هذه العملية سوف تكون كارثية. كان هذا التحليل يستند إلى أن روسيا التي تعاني من عقوبات اقتصادية سابقة لن تحتمل مزيدا من العقوبات، أو المقاطعة، كما كان يضخم من جهة أخرى من حالة السخط الشعبي الداخلية للتأكيد على أن النظام في روسيا هش.
دخول الحرب يعني في ما يعنيه زيادة الضغط الاقتصادي، لذلك فإن بداية التوغل الروسي لم تدفع أصحاب فرضية «التكلفة العالية» إلى التراجع، بل على العكس من ذلك جعلتهم يتمسكون بها بشكل أكبر، خاصة بعد ما ظهر من مقاومة أوكرانية وما تم تفسيره على أنه عجز روسي عن التقدم والسيطرة.
الفشل العسكري والتخبط السياسي عاملان مهمان وأساسيان لحدوث ثورة أو تغيير سياسي، فالشعب المرهق اقتصادياً وغير المتحمس لنظامه السياسي، لن يكون مستعداً لتحمل تبعات أي مغامرة عسكرية.. هذه هي القاعدة التي كان يشير إليها المحللون الذين كانت قراءاتهم تشير إلى أن الأمور سوف تكون لصالح الأوكرانيين. هذا يفسر أيضا مغزى العبارة التي قالها الرئيس الأمريكي جو بايدن بحماس إبان زيارته للعاصمة البولندية وارسو: «لا يمكن لهذا الرجل البقاء في السلطة».

الشعب المرهق اقتصادياً وغير المتحمس لنظامه السياسي، لن يكون مستعداً لتحمل تبعات أي مغامرة عسكرية

الإسقاط على التاريخ الروسي قد يمنح هذه القراءة بعض الوجاهة، كما في حال تذكرنا لنيقولا الثاني (1886 ـ 1918) القيصر الأخير في سلالة آل رومانوف التي حكمت روسيا لحوالي ثلاثة قرون. مثل بوتين دخل ذلك القيصر الشاب حروباً لم يكن مستعداً لها مع اليابان أولاً، ثم مع ألمانيا إبان الحرب العالمية الأولى ليتلقى هزائم موجعة. بالتزامن مع تدهور الحالة الاقتصادية وفشل نيقولا الواضح في إدارة الوضع في الداخل وعلى صعيد جبهة القتال، تصاعدت الاحتجاجات وأعمال التمرد، بما وصل حد تمرد العسكريين وانشقاقهم، بل تحولهم لمعارضين مسلحين له، ما أدى لتقوية الثورة ضده وصولا لاقتلاعه. ربما تكون هذه المقارنة بهذا الشكل مغرية للذين يتطلعون لهزيمة بوتين وكسر شوكة الجيش الروسي، الذي يرون أنه تمدد أكثر من اللازم، لكن من الناحية الواقعية فإن هناك اختلافات كثيرة بين شخصيتي كل من نيقولا الثاني وفلاديمير بوتين، على رأسها أن الأول كان بلا خبرة بعد أن وضعته الظروف والمصادفات البحتة على هرم الدولة، وهو ما جعله مرتهناً لآراء من حوله من مستشارين ووزراء، وحتى لأهواء زوجته الإمبراطورة أليكساندرا الألمانية الجذور. يستشهد للتدليل على ضعف نيقولا بالدور الفريد الذي كان يلعبه الراهب غريغوري راسبوتين في القصر. كان راسبوتين شخصية مثيرة للجدل كرجل دين شهواني معروف بسمعة سيئة وروحانية عالية في الوقت ذاته، والأهم أنه كانت لديه قدرة سحرية على التأثير في الامبراطورة ومن بعدها على القيصر، لدرجة حثهما على القيام بإجراءات خطيرة مثل تغيير الحكومات وتعيين أشخاص بلا كفاءة.
في فترة وجيزة كان الروس يخسرون حوالي المليون ونصف المليون جندي في حربهم ضد ألمانيا، كما كان التذمر قد تفشى بين الجنود الذين بدؤوا يشعرون بأن هذه الحرب ليست حربهم، وبأن قيصرهم لا يبالي بحياتهم. في المدن الروسية لم تكن الأوضاع أفضل بكثير، فكانت السلع منعدمة وعاش الناس ما يشبه المجاعة، في الوقت الذي كانوا مجبرين فيه على إنتاج المزيد للمساهمة في العتاد الحربي وصنع الذخيرة. يبدو أن هذه الصورة التي اجتمع فيها السخط الداخلي والفشل في الحرب الخارجية، التي اندلعت بسببها إحدى أهم الثورات في القرن العشرين موجودة في لا وعي المحللين، لكن إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه المقارنة منطقية، وهل العجز في الوصول إلى برلين يشبه العجز عن احتلال كييف؟
يمكن أن تتعدد إجابات هذا السؤال لكن الأكيد هو أن بوتين لم يأت للحكم بين ليلة وضحاها كالقيصر نيقولا، كما أنه أبعد ما يكون عن التردد أو التأثر بمن حوله لدرجة أن البعض كان يقول قبيل بدء الحرب إن القرار بشأنها بيده وحده. في الشق الآخر الخاص بالعقوبات والضغوط الاقتصادية يجب أن نعلم أيضاً أن قرار الحرب هذا لم يتم اتخاذه بشكل متسرع، فكما رشح في بعض التقارير الاستخباراتية كانت خطة الحرب موضوعة من قبل شهور طويلة، بما يشمل الاستعداد لكل ما يمكن أن تواجهه روسيا من ردود أفعال على قرارها الخطير هذا. لهذا، فإنه من غير المنطقي اعتبار أن القيادة الروسية تفاجأت بالإجراءات الاقتصادية التي اتخذت ضدها، خاصة ما يتعلق بالتضييق التجاري والحد من التعامل المالي، أو أنها لم تكن تتحسب لها. بالإضافة إلى كل هذا تبقى المقارنة بين روسيا العجوز بداية القرن العشرين وروسيا الحالية، التي تبتز أوروبا بموارد الطاقة والغاز وتشترط الدفع بالروبل صعبة. صعوبة مشابهة لتشبيه أوكرانيا بألمانيا إبان الحرب العالمية، فحتى الحديث عن أن أوكرانيا ليست وحدها وأنها مسنودة بدول غربية عظمى، لم يعد شديد الواقعية بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب، وتحول كثير من المدن والمؤسسات الأوكرانية إلى رماد. السياق مختلف لكن هناك مع ذلك أوجه شبه، من هذه الأوجه الأهمية التي حظيت بها طبقة النبلاء الأرستقراطية أيام روسيا القيصرية، والتي يمكن مقارنتها بما يعرف اليوم بالأوليغارشية الروسية. كانت طبقة النبلاء في عهد أسرة رومانوف مرتبطة بالطبقة الحاكمة، وكان كلاهما يعيش معيشة الترف المتناقضة مع حال الغالبية من الفلاحين والعمال الروس. مجد هذه الطبقة وأهميتها كانا مبنيان على العلاقة المقربة التي تجمع أولئك الأرستقراطيين بالقيصر وأسرته. لهذا السبب فإن هؤلاء النبلاء كانوا يرون في راسبوتين عدواً لهم، خاصة بعد أن أصبح بإمكان هذا الغريب المنحدر من عامة الشعب، إدارة البلاد بشكل فعلي، حيث لا تفعل الإمبراطورة وزوجها القيصر سوى الاستجابة لنصائحه وإن حوت تهوراً وتخبطاً. اغتيال راسبوتين كان الحل الوحيد بيد أولئك النبلاء من أجل فك الارتباط بينه وبين القيصر وهو ما تم تنفيذه بالفعل بعد خطة محكمة.
طبقة الأوليغارشيين الروس الحالية تبدو مشابهة في علاقتها بالنظام السياسي لطبقة النبلاء القديمة. يشير المصطلح لمجموعة كبار رجال الأعمال الذين استفاد معظمهم من سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، خلال فترة التسعينيات، كما يشير للمليارديرات الروس الذين يحظون بعلاقة قوية مع الرئيس بوتين مع شائعات عن دور لهم في إيصاله إلى السلطة. تعرضت الأسماء البارزة ضمن هذه الطبقة لعقوبات بعد ضم شبه جزيرة القرم، وتتعرض حالياً لعقوبات أقسى على خلفية الحرب الأوكرانية شملت تجميد حساباتهم البنكية في البنوك الغربية، خاصة الولايات المتحدة، وحجز ممتلكاتهم التي تشمل يخوتاً وعقارات فخمة. الصحافي الاستقصائي آدم بيور اعتبر في كتابه الجديد «ملوك نيويورك الجدد» أن المليارديرات الروس قاموا باحتلال نيويورك فعليا، جنباً إلى جنب مع مدن أخرى كميامي ولوس أنجلس مستفيدين من ثغرات أنظمة التتبع المالي الأمريكية، التي استفاد منها كثير من المتهربين من الضرائب أو المتهمين بغسيل الأموال. يصعب حتى الآن التكهن بمستقبل دور الأوليغارشيين وقدرتهم على تغيير دفة الأحداث، على الأقل بما يصب في مصلحتهم.

القدس العربي