من الموصل والرقة إلى ماريوبول وغزة .. قتل المدنيين جريمة

من الموصل والرقة إلى ماريوبول وغزة .. قتل المدنيين جريمة

أصيب الأميركيون بالصدمة بسبب الموت والدمار اللذين ألحقهما الغزو الروسي لأوكرانيا، وامتلأت شاشاتنا بصور المباني التي تعرضت للقصف والجثث الملقاة في الشوارع. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها شنوا حروبًا في بلد تلو الآخر على مدى عقود، ونحتوا مساحات من الدمار في المدن والبلدات والقرى على نطاق أكبر بكثير أصاب أوكرانيا حتى الآن.
كما كتبنا مؤخرًا، أسقطت الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من 337.000 قنبلة وصاروخ، أي ما يعادل 46 قنبلة وصاروخ في اليوم الواحد، على تسع دول منذ العام 2001 فقط. وقال ضباط كبار في وكالة استخبارات الدفاع الأميركية لمجلة “نيوزويك” أن أول 24 يومًا من القصف الروسي لأوكرانيا كانت أقل تدميراً من اليوم الأول وحده للقصف الأميركي للعراق في العام 2003.
وقصفت الحملة التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم “داعش” في العراق وسورية هذين البلدين بأكثر من 120 ألف قنبلة وصاروخ، في أعنف قصف حدث في أي مكان في العالم منذ عقود. وأخبر ضباط من الجيش الأميركي “منظمة العفو الدولية” أن الهجوم الأميركي على مدينة الرقة في سورية كان أيضًا أعنف قصف مدفعي يُشهد منذ حرب فيتنام.
وكانت الموصل في العراق هي أكبر مدينة حولتها الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أنقاض في تلك الحملة، وكان عدد سكانها قبل الهجوم 1.5 مليون نسمة. وقد تضرر أو دُمر حوالي 138 ألف منزل جراء القصف وقذائف المدفعية، وأحصى تقرير استخباراتي كردي عراقي مقتل 40 ألف مدني على الأقل في ذلك القصف.
وتم انتزاع أحشاء مدينة الرقة، التي كان عدد سكانها 300.000 نسمة، حتى أكثر من ذلك. وأفادت بعثة تقييم تابعة للأمم المتحدة أن 70-80 في المائة من مبانيها دُمرت أو تضررت. وأفادت القوات السورية والكردية في الرقة بأنه تم إحصاء 4.118 جثة مدنية. وما تزال العديد من الوفيات غير مشمولة بالإحصاءات وترقد في أنقاض الموصل والرقة. ومن دون إجراء استطلاعات شاملة لأعداد الوفيات، قد لا نعرف أبدًا نسبة الوفيات الفعلية التي تمثلها هذه الأرقام.
وعدت وزارة الدفاع الأميركية بإجراء مراجعة لسياساتها بشأن الخسائر المدنية في أعقاب هذه المجازر، وكلفت مؤسسة “راند” بإجراء دراسة بعنوان “فهم الضرر المدني في الرقة وانعكاساته على النزاعات المستقبلية”، والتي تم الإعلان عنها للجمهور مؤخراً.
حتى بينما يجفل العالم من العنف المروع الجاري في أوكرانيا، فإن فرضية دراسة مؤسسة “راند” هي أن القوات الأميركية ستستمر في شن الحروب التي تنطوي على قصف مدمر للمدن والمناطق المأهولة بالسكان، وبالتالي يجب على الأميركيين محاولة فهم كيف يمكنهم القيام بذلك من دون قتل الكثير من المدنيين.
تتكون الدراسة المذكورة من أكثر من 100 صفحة، لكنها لا تتناول أبدًا المشكلة المركزية، وهي الآثار المدمرة والمميتة حتمًا التي يخلفها إطلاق أسلحة متفجرة على مناطق حضرية مأهولة، مثل الموصل في العراق، والرقة في سورية، وماريوبول في أوكرانيا، وصنعاء في اليمن أو غزة في فلسطين.
لقد فشل تطوير “الأسلحة الدقيقة” بشكل واضح في منع هذه المذابح. وكشفت الولايات المتحدة النقاب عن “قنابلها الذكية” الجديدة خلال حرب الخليج الأولى 1990-1991. لكنها كانت تشكل في الواقع 7 في المائة فقط من ما مجموعه 88 ألف طن من القنابل التي أسقطتها على العراق، مما أدى إلى اختزال “مجتمع حضري ومُمكنَن للغاية” إلى “أمة من عصر ما قبل الصناعة” وفقًا لمسح أجرته الأمم المتحدة.
وبدلاً من نشر بيانات فعلية عن دقة هذه الأسلحة، حافظت وزارة الدفاع الأميركية على شن حملة دعائية متطورة لنشر الانطباع بأن هذه الأسلحة دقيقة بنسبة 100 في المائة، ويمكنها إصابة هدف صغير نسبياً، مثل منزل أو مبنى سكني، من دون الإضرار بالمدنيين في المنطقة المحيطة.
ومع ذلك، أثناء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، قدر روب هيوسون، محرر مجلة متخصصة في تجارة الأسلحة تستعرض أداء الأسلحة التي يتم إطلاقها من الجو، أن 20 إلى 25 في المائة من الأسلحة الأميركية “الدقيقة” أخطأت أهدافها.
وحتى عندما تصيب هذه الأسلحة هدفها، فإنها لا تعمل مثل أسلحة الفضاء في لعبة فيديو. إن القنابل الأكثر استخدامًا في ترسانة الولايات المتحدة هي قنابل من زنة 500 رطل، مع شحنة متفجرة يبلغ وزنها 89 كيلوغرامًا من التريتونال. ووفقًا لبيانات السلامة الصادرة عن الأمم المتحدة، فإن الانفجار الناجم عن تلك العبوة المتفجرة وحدهه مميت بنسبة 100 في المائة ضمن دائرة نصف قطرها 10 أمتار، وسيكسر كل نافذة ضمن نطاق 100 متر.
هذا تأثير الانفجار وحده فحسب. وتنجم الوفيات والإصابات المروعة أيضاً عن انهيار المباني وتطاير الشظايا والحطام -الخرسانة والمعادن والزجاج والخشب وما إلى ذلك.
تعتبر الضربة دقيقة إذا سقطت ضمن “احتمال حدوث خطأ دائري” يكون عادةً 10 أمتار حول الشيء المستهدف. ولذلك، في منطقة حضرية، إذا أخذت في الحسبان “احتمال الخطأ الدائري”، ونصف قطر الانفجار، والحطام المتطاير والمباني المنهارة، فحتى الضربة التي يتم تقييمها على أنها “دقيقة” يمكن كثيراً أن تقتل وتصيب المدنيين.
يميز المسؤولون الأميركيون أخلاقياً بين هذا القتل “غير المتعمد” والقتل “المتعمد” للمدنيين على يد الإرهابيين. لكن المؤرخ الراحل هوارد زين تحدى هذا التمييز في رسالة إلى صحيفة “نيويورك تايمز” في العام 2007. وكتب:
“هذه الكلمات مضللة لأنها تفترض أن الإجراء إما ’متعمد‘ أو ’غير مقصود‘. لكن هناك شيئاً بينهما، والذي تصفه كلمة ’حتمي‘. إنك إذا شاركت في عمل، مثل القصف الجوي، حيث قد لا يمكنك أن تميز بين المقاتلين والمدنيين (بصفتي عضواً سابقاً في طاقم قاذفة حربية في سلاح الجو، سأشهد على ذلك)، فإن مقتل المدنيين هو أمر حتمي، حتى لو لم يكن ’مقصودًا‘”.
“هل هذا الاختلاف يعفيك أخلاقيًا؟ إن إرهاب الانتحاري وإرهاب القصف الجوي هما في الواقع متكافئان من الناحية الأخلاقية. والقول بخلاف ذلك (كما قد يفعل أي من الجانبين) هو ادعاء المرء نفسه تفوقاً أخلاقياً على الآخر، وهو ما يعمل بالتالي على إدامة أهوال عصرنا”.
يشعر الأميركيون بالرعب عندما يرون مدنيين يُقتلون بسبب القصف الروسي في أوكرانيا، لكنهم عمومًا لا يرتعبون إلى هذا الحد، ومن المرجح أن يقبلوا التبريرات الرسمية، عندما يسمعون أن مدنيين قتلوا على يد القوات الأميركية أو بالأسلحة الأميركية في العراق وسورية، واليمن أو غزة. وتلعب وسائل الإعلام الغربية السائدة دورًا رئيسيًا في هذا، من خلال عرضها الجثث في أوكرانيا ونحيب الأحباء لنا، لكنها تحمينا من الصور المزعجة بنفس المقدار للناس الذين قتلوا على أيدي القوات الأميركية أو القوات المتحالفة.
بينما يطالب القادة الغربيون بمحاسبة روسيا على جرائم الحرب، فإنهم لم يثيروا مثل هذا الصخب لمحاسبة المسؤولين الأميركيين. ولكن أثناء الاحتلال العسكري الأميركي للعراق، وثقت كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر وبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) انتهاكات القوات الأميركية المستمرة والمنهجية لاتفاقيات جنيف، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 التي تحمي المدنيين من تأثيرات الحرب والاحتلال العسكري.
كما قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجماعات حقوق الإنسان بتوثيق الانتهاكات المنهجية والتعذيب الذي تعرض له المعتقلون في العراق وأفغانستان، بما في ذلك الحالات التي قامت فيها القوات الأميركية بتعذيب سجناء حتى الموت.
وعلى الرغم من أن التعذيب كان يجري بموافقة المسؤولين الأميركيين، صعوداً حتى البيت الأبيض نفسه، لم يُحاسب أي ضابط فوق رتبة رائد على الإطلاق عن وفاة ناجمة عن التعذيب في أفغانستان أو العراق. وكانت أقسى عقوبة تم توقيعها على مرتكبي جريمة تعذيب سجين حتى الموت هي السجن لمدة خمسة أشهر، على الرغم من أن هذه جريمة يُعاقَب عليها بالإعدام بموجب قانون جرائم الحرب الأميركي.
في تقرير عن حقوق الإنسان صدر في العام 2007، ووصف القتل واسع النطاق للمدنيين على يد قوات الاحتلال الأميركية، كتبت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق: “يطالب القانون الإنساني الدولي العرفي، قدر الإمكان، بعدم تحديد الأهداف العسكرية داخل مناطق مكتظة بالسكان المدنيين. ولا يغير وجود أفراد مقاتلين بين عدد كبير من المدنيين من الطابع المدني للمنطقة المعنية”.
وطالب التقرير بـ”إجراء تحقيق شامل وسريع ونزيه في جميع المزاعم الموثوقة بوقوع أعمال قتل غير قانونية، واتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الأفراد العسكريين الذين يتبين أنهم استخدموا القوة المفرطة أو العشوائية”.
ولكن، بدلاً من التحقيق قامت الولايات المتحدة بالتستر على جرائم الحرب التي ارتكبتها. ومن الأمثلة المأساوية على ذلك مذبحة العام 2019 في بلدة الباغوز السورية، حيث أسقطت وحدة عمليات عسكرية أميركية خاصة قنابل ضخمة على مجموعة معظمها من النساء والأطفال، مما أسفر عن مقتل حوالي 70 شخصًا. ولم يكتف الجيش بعدم الاعتراف بالهجوم الفاشل، وإنما قام حتى بتجريف الموقع للتستر عليه. وكان فقط بعد عن كشف تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” عن المذبحة بعد سنوات حين اعترف الجيش بأن تلك الضربة حدثت فعلاً.
لذلك، من المفارقات أن نسمع الرئيس بايدن يدعو إلى مواجهة الرئيس بوتين المحاكمة بسبب جرائم الحرب، عندما تتستر الولايات المتحدة على جرائمها الخاصة، وتفشل في محاسبة كبار مسؤوليها على جرائم الحرب وتواصل رفض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. بل إن الرئيس دونالد ترامب ذهب في العام 2020 إلى حد فرض عقوبات أميركية على كبار المدعين العامين للمحكمة الجنائية الدولية بسبب تحقيقهم في جرائم الحرب الأميركية في أفغانستان.
تزعم دراسة “راند” مرارًا وتكرارًا أن لدى القوات الأميركية “التزام عميق الجذور بقانون الحرب”. لكن تدمير الموصل والرقة ومدن أخرى والتاريخ الطويل من ازدراء الولايات المتحدة لميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف والمحاكم الدولية تروي قصة مختلفة تمامًا.
إننا نتفق مع استنتاج تقرير راند بأن “التعلُّم المؤسسي الضعيف لوزارة الدفاع بشأن قضايا الضرر المدني يعني أن الدروس السابقة ذهبت أدراج الرياح، مما زاد من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون في الرقة”. ومع ذلك، فإننا نتعامل مع فشل الدراسة في الاعتراف بأن العديد من التناقضات الصارخة التي توثقها إنما هي عواقب للطبيعة الإجرامية الأساسية لهذه العملية برمتها، بموجب اتفاقية جنيف الرابعة وقوانين الحرب الحالية.
إننا نرفض الفرضية الكاملة لهذه الدراسة، وهي أن القوات الأميركية يجب أن تستمر في استخدام القصف الحضري الذي سيؤدي حتماً إلى مقتل آلاف المدنيين، ولذلك يجب عليها بالتالي أن تتعلم من هذه التجربة حتى تقتل وتشوه عددًا أقل من المدنيين في المرة القادمة التي تدمر فيها مدينة مثل الرقة أو الموصل.
إن الحقيقة القبيحة وراء هذه المذابح الأميركية هي أن الإفلات من العقاب الذي تمتّع به كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين الأميركيين على جرائم الحرب الماضية شجعهم على الاعتقاد بأنهم قد يفلتون من قصف مدن في العراق وسورية وتحويلها إلى أنقاض، على نحو يؤدي حتماً إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين.
وقد ثبت حتى الآن أنهم كانوا محقين، لكن ازدراء الولايات المتحدة للقانون الدولي وفشل المجتمع الدولي في محاسبة الولايات المتحدة يدمران “النظام القائم على القواعد” للقانون الدولي الذي يدَّعي القادة الأميركيون والغربيون أنه يعتزون به ويقدّرونه.
بينما ندعو بشكل عاجل إلى وقف إطلاق النار والسلام والمساءلة عن جرائم الحرب في أوكرانيا، فإننا يجب أن نقول “لن يتكرر هذا أبدًا”! لقصف المدن والمناطق المدنية، سواء كانت في سورية، أو أوكرانيا، أو اليمن أو إيران، أو غزة أو أي مكان آخر، سواء كانت المعتدية روسيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل أو غيرها.
يجب ألا ننسى أبدًا أن جريمة الحرب الكبرى هي الحرب نفسها، جريمة العدوان، لأنها، كما أعلن القضاة في نورمبرغ، “تحتوي في حد ذاتها على الشر المتراكم للتكوين الكلي”. من السهل توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين، لكننا لن نوقف الحرب حتى نجبر قادتنا على الالتزام بالمبدأ الذي حدده قاضي المحكمة العليا والمدعي العام في نورمبرغ، روبرت جاكسون:
“إذا كانت بعض الأفعال التي تنتهك المعاهدات جرائم، فإنها تظل جرائم سواء ارتكبتها الولايات المتحدة أو ألمانيا. لسنا مستعدين لإرساء قاعدة للسلوك الإجرامي ضد الآخرين لا نرغب في الاحتجاج بها ضدنا”.
الغد