تؤشر صفقة تبادل الأسرى بين الولايات المتحدة وروسيا في خضم الحرب الأوكرانية على أن الدبلوماسية لا تزال ممكنة بين موسكو والغرب.
ورغم الخلافات العميقة بين روسيا والغرب بشأن العديد من القضايا والتي وصلت إلى أدنى مستوى لها حاليا بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، يقول محللون إنه يتعين على الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الإبقاء على القنوات الدبلوماسية مع روسيا مفتوحة والسعي للتوصل إلى نقطة مشتركة للبناء عليها بهدف نزع فتيل التوتر الراهن.
ويقول الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، إنه وسط أكثر من شهرين من التركيز الإعلامي المكثف على الحرب في أوكرانيا، جرى إغفال أحد الأخبار، حيث نفذت الولايات المتحدة وروسيا في أواخر أبريل عملية تبادل للأسرى.
وأفرجت روسيا عن مواطن أميركي (وهو جندي سابق في مشاة البحرية) كانت قد احتجزته قبل نحو ثلاثة أعوام، بينما أفرجت الولايات المتحدة عن طيار روسي سجنته قبل أكثر من عشرة أعوام بتهمة تهريب مخدرات.
ويشير هاس إلى أن ما يجعل عملية التبادل جديرة بالملاحظة هو إتمامها في وقت تسبب فيه الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا في تدهور العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب الباردة.
وقد اختارت الولايات المتحدة تجنب التورط العسكري المباشر في الحرب، لكنها تقوم بدور كبير للتأثير على مسارها، بما في ذلك، تزويد أوكرانيا بكميات كبيرة من الأسلحة المتقدمة والمعلومات الاستخباراتية والتدريب لكي تقاوم بنجاح القوات الروسية وربما تهزمها. كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات لتقوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا.
واعتبر هاس مؤلف كتاب “عالم في حالة من الفوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم” أنه من المرجح أن تمتد الحرب لبعض الوقت.
وعلى الرغم من أن مصلحة أوكرانيا الأساسية تتركز في إنهاء الحرب ومنع المزيد من الخسائر البشرية والدمار، فإن رغبة الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في تحقيق السلام، مشروطة. حيث يسعى لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا وضمان احترام سيادة بلاده، لكي تتمكن أوكرانيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما يرغب في محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب.
ويحتاج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تحقيق نتيجة تبرر غزوه المكلف لكي لا يبدو ضعيفا أو يواجه تحديات في روسيا. وهناك فرصة ضئيلة في إمكانية التفاوض لتحقيق سلام من أجل تجاوز الفجوة بين هذين الموقفين المتناقضين. ومن المرجح أن يستمر الصراع، ليس لعدة شهور فحسب، ولكن لسنوات قادمة. وسيكون هذا هو خلفية العلاقات الأميركية والغربية مع روسيا.
ويقول هاس إن أحد الاحتمالات يتمثل في أن يربط الغرب كل علاقاته مع روسيا بتصرفات روسيا في أوكرانيا. ورغم ذلك، سيكون هذا خطأ، لأن روسيا يمكن أن تؤثر على مصالح أوروبية أخرى، مثل تقييد القدرات النووية والصاروخية لإيران وكوريا الشمالية ونجاح الجهود العالمية لخفض الانبعاثات التي تسبب تغير المناخ.
ويرى هاس أن الخبر السار هو أنه كما أوضح تبادل الأسرى، لا يجب أن تحول الخلافات العميقة بشأن أوكرانيا دون إجراء أعمال تحقق المنفعة المتبادلة إذا كان الجانبان يرغبان في العمل على أساس الفصل بين الأمور المختلفة إلا أن حماية إمكانية التعاون الانتقائي ستتطلب دبلوماسية متطورة ومنضبطة.وكبداية، ستحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها إلى تحديد أولوياتهم وحتى الحد من أهدافهم في أوكرانيا. وهذا يعني التوقف عن الحديث عن تغيير النظام في موسكو.
وقد يواجه وضع بوتين تحديات من الداخل (أو قد يتوفى نتيجة للتحديات الصحية التي يتردد أنه يواجهها)، لكن الغرب ليس في وضع يسمح له بتدبير عزله، ناهيك عن ضمان أن يحل محله شخص أفضل.
وبالمثل، سيكون من الحكمة بالنسبة إلى الحكومات الغربية أن ترجئ الحديث عن محاكمات للمتهمين بارتكاب جرائم حرب من كبار المسؤولين الروس والتوقف عن التفاخر بمساعدة أوكرانيا لاستهداف كبار الجنرالات الروس والسفن الروسية.
ومع استمرار الحرب والتحقيقات، يحتاج الروس إلى رؤية بعض المردود الإيجابي لتصرفهم بشكل مسؤول. وينطبق نفس الشيء على التعويضات.
الصراع من المرجح أن يستمر ليس لعدة شهور فحسب ولكن لسنوات قادمة، وسيكون هذا هو خلفية العلاقات الأميركية والغربية مع روسيا
وبالمثل، فإنه على الرغم من أن روسيا ستجد نفسها على الأرجح في وضع أسوأ اقتصاديا وعسكريا نتيجة لبدء هذه الحرب باختيارها، يتعين على الحكومة الأميركية أن توضح، على عكس تصريحات وزير الدفاع لويد أوستن، أن هدف واشنطن هو عدم استخدام الحرب لإضعاف روسيا، بل على العكس يجب أن تؤكد الولايات المتحدة أنها ترغب في إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن بشروط تعكس سيادة أوكرانيا واستقلالها.
وبالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا، يجب أن يواصل الغرب تقديم الدعم لأوكرانيا لمنع التصعيد من خلال تجنب القتال المباشر. كما ينبغي أن يتم التوضيح لروسيا أن ضبط النفس هذا مشروط بعدم توسيعها لنطاق الحرب ليشمل أي دولة عضو في حلف الناتو أو استخدام أسلحة دمار شامل، لأنه عندئذ ستتلاشى الحدود التي وضعها الغرب لنفسه.
ورأى هاس أنه ينبغي أن يدرس الغرب بعناية أهدافه من الحرب وكيفية السعي لتحقيقها. ويجب أن يكون الهدف هو أن تسيطر أوكرانيا على كل أراضيها، ولكن هذا لا يبرر بالضرورة محاولة تحرير القرم أو كل إقليم دونباس الشرقي بالقوة العسكرية.
وربما يكون من الأفضل السعي لتحقيق بعض هذه الأهداف بالطرق الدبلوماسية والتخفيف الانتقائي للعقوبات، ولكن حتى يتغير سلوك روسيا، يتعين ألا تظل العقوبات قائمة فحسب، وإنما توسيعها لتشمل واردات الطاقة التي تستخدم لتمويل الجهود الحربية الروسية.
وقال هاس إن الدبلوماسية هي أداة تستخدم لتحقيق الأمن القومي، وليست معروفا يتم تقديمه للغير، ويجب أن يتواصل استخدامها مع روسيا رغم الحرب الأوكرانية. كما يجب أن يتم استئناف اللقاءات الخاصة بين كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين من الدول الغربية وروسيا من أجل تقليص خطر حدوث سوء تقدير يمكن أن يؤدي إلى حدوث مواجهة أو ما هو أسوأ، وأيضا لاستكشاف الفرص لتحقيق تعاون محدود.
ويختتم هاس بالقول إنه ربما لا تظهر العلاقات البناءة مع روسيا إلا في فترة ما بعد حكم الرئيس فلاديمير بوتين، ولكن هذا لا يغير بأي حال من الأحوال مصلحة الغرب في عدم تدهور العلاقات إلى مستوى معين حتى يحين ذلك.
صحيفة العرب