لم يكن رد فعل بولندا وطريقة تعاطيها مع الحرب الروسية – الأوكرانية، سوى ترجمة حقيقية لموقفها الثابت من موسكو، وتخوفها الدائم من تطلعات وطموحات بوتين الإقليمية. ويعود هذا الموقف الحاد والمتشدد لمحطات تاريخيه من العداء بين الطرفين، الأمر الذي تسبب في وضع وارسو في موقع المعارض الدائم لتحركات موسكو تجاه دول أوروبا الشرقية، علاوة على مساعيها لنسج خيوط التقارب بين هذه الدول والاتحاد الأوروبي، كجزء من محاولاتها لتطويق ووضع قيود أمام تحركات موسكو الرامية لاستعادة الإمبراطورية الروسية. وفي ضوء الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، أصبحت بولندا محوراً للتحركات الغربية لردع موسكو.
خطة وارسو:
صاغت وارسو رؤيتها واستراتيجيتها لوضع حد للحرب الروسية في أوكرانيا، عبر مجموعة من المحاور، وهو ما عبّر عنه رئيس وزراء بولندا، ماتيوز مورافيكي، في مقال رأي نشره موقع “بوليتيكو” بنسخته الأوروبية يوم 25 مارس 2022، إذ اعتبر أن إنقاذ أوكرانيا يحتاج إلى مزيد من التنسيق، والتعاون بين العواصم الأوروبية، والتحرك من خلال عدد من المحاور؛ وهي الخطة التي وضعتها وارسو بالتعاون مع سلوفينيا وجمهورية التشيك، وتستهدف محاصرة روسيا وفرض حالة من العزلة والخناق عليها. وتتم هذه الخطة من خلال عشر خطوات، من بينها التأكيد على ضرورة منع الاقتصاد الروسي من التكيف مع العقوبات الغربية، وذلك من خلال فصل جميع البنوك الروسية عن نظام “سويفت” المالي العالمي.
يُضاف إلى ذلك، العمل على وقف الدعاية الروسية بشكل كامل في أوروبا، بجانب فرض حصار بحري على موسكو عبر منع سفنها من دخول الموانئ الأوروبية، علاوة على فرض حصار مماثل على النقل البري داخل وخارج روسيا، مع وجود عقوبات مُحكمة على بيئة الأعمال الروسية، وتعليق دخول المواطن الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن فرض عقوبات على أعضاء حزب “روسيا الموحدة” الحاكم كافة، مع استبعاد موسكو من المنظمات الدولية كافة، وحظر تصدير التقنيات التي يمكن أن توظفها روسيا في الحرب الحالية.
مكاسب عديدة:
تسببت الحرب الروسية – الأوكرانية في جملة من الخسائر للأطراف الرئيسية المُنخرطة في الصراع، كما امتدت هذه الخسائر لباقي دول العالم؛ الأمر الذي قد يستمر لفترات قادمة، في ظل استمرار الحرب، وفشل حتى الآن الجهود الرامية لدعم المسار التفاوضي من خلال بناء الثقة وخلق مساحات من التوافق بين طرفي الصراع.
وعلى الرغم من تلك الخسائر والانعكاسات الوخيمة للحرب على المجتمع الدولي، فإن بولندا قد تمكنت من تحقيق عدد من المكاسب التكتيكية والاستراتيجية منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير الماضي، وقد ارتبط بعضها بالداخل، فيما انعكس الآخر على دور وارسو كقوة يمكن أن تُعيد الاتزان لدول حلف “الناتو” أو على أقل تقدير تُسهم في تشكيل حائط صد ونقطة ارتكاز لمواجهة التهديدات الروسية في حال توسعها أو تمددها خارج حدود أوكرانيا. ويمكن إيجاز أبرز المكاسب البولندية من الحرب الراهنة في النقاط التالية:
1- إثبات صحة موقف وارسو من موسكو: حققت بولندا مكسباً استراتيجياً على أثر اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، فمنذ عضوية الأولى في حلف “الناتو” عام 1999، روجت لخطورة المشروع الروسي التوسعي، وما يمثله من تهديد على دول أوروبا الشرقية؛ بيد أن الكتلة الغربية كانت تنظر لهذا الطرح البولندي على أنه يحمل قدراً من المبالغة، خاصة أن وارسو لم تكن من أنصار مبدأ احتواء موسكو عبر تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، حيث كانت تنظر إلى أدوات القوة الصلبة باعتبارها الأنسب لردع روسيا.
وعليه، عزز التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا من طرح بولندا وإثبات صدق مخاوفها، وهو ما أكده الرئيس البولندي السابق، ليخ كاتشينسكي، في عام 2008، حيث قال حينها “اليوم جورجيا، وغداً أوكرانيا، ثم دول البلطيق، وربما تأتي بولندا لاحقاً”. والأمر ذاته تطرق إليه رئيس مستشارية الرئيس البولندي، باويز زروت، قائلاً: “إنه لأمر محزن للغاية أن الحرب والعدوان الروسي كانا ضروريين لأوروبا والعالم للاعتراف بأن بولندا كانت على حق”، على حد وصفه. ومن هنا، تنظر وارسو للحشد الأوروبي والغربي الحالي ضد روسيا باعتباره انتصاراً لرؤيتها.
2- تأمين حضور بولندا كمحور لتحركات الغرب في حرب أوكرانيا: عزز موقع بولندا الجغرافي، مكانتها كبوابة للحضور الغربي في الحرب الحالية؛ وذلك بسبب حدودها المشتركة مع أوكرانيا والتي تصل لنحو 530 كيلو متراً، بحيث أصبحت في موقع المدافع عن دول أوروبا الشرقية، علاوة على تحولها لدولة عبور للمعدات والأسلحة الغربية إلى أوكرانيا. وهذا ما اعتبرته بعض التقديرات أكبر عملية لنقل الأسلحة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبحت بولندا موطئ قدم لدول “الناتو”؛ وذلك من خلال نمطين: الأول عبر تعزيز الحضور العسكري، والذي وصل إلى نحو 9 آلاف جندي، بعدما نشرت الولايات المتحدة الأمريكية نحو 5 آلاف جندي قبل بدء الحرب الأوكرانية. في حين انسحب النمط الثاني لنشر عدد من المعدات العسكرية والمنظومات الدفاعية في بولندا. ومن هنا عززت دورها في صياغة معادلة الأمن الغربي، ما جعلها بمنزلة “العمود الفقري” لمجمل التحركات الغربية في الحرب الدائرة.
3- ترميم علاقة بولندا مع الحلفاء الغربيين: تسببت الحرب الروسية – الأوكرانية في تغيّر موقف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، من وارسو، حيث إنه خلال حملته الانتخابية، كان ينظر إليها كنموذج للأنظمة الشمولية الصاعدة في العالم، كما تأزم الموقف بين البلدين في نهاية العام الماضي عندما أقر البرلمان البولندي مشروع قانون موجه لشبكة تلفزيونية مملوكة للولايات المتحدة. بيد أن التفاعلات التي أعقبت اندلاع الحرب الحالية، أظهرت تغيراً ملحوظاً في موقف الإدارة الأمريكية من وارسو، ولعل زيارة الرئيس بايدن لبولندا في 25 مارس الماضي دليل على اقتناعه بالثقل الذي تمثله الأخيرة في الحرب الدائرة. ولم تكن تلك الزيارة الأولى لمسؤول أمريكي رفيع المستوى إلى بولندا، إذ سبقها عدد من الزيارات الأخرى لمسؤولين أمريكيين، ومنهم نائبة الرئيس الأمريكي، ورئيس وكالة المخابرات المركزية، ووزير الدفاع.
من ناحية أخرى، سبق أن توترت العلاقات بين بولندا والاتحاد الأوروبي على خلفية اتهامات تتعلق بسيادة القانون في بولندا، وتهديد القضاء ونزع استقلاليته، علاوة على التضييق على حرية الصحافة والإعلام؛ ما دفع دول الاتحاد لتجميد نحو 36 مليار يورو كانت مخصصة لبولندا لمواجهة الأوبئة، علاوة على تصاعد الحشد الأوروبي لحجب المساعدات المالية المقدمة لوارسو.
وفي هذا السياق، يُنظر لموقف واشنطن كونه مكسباً نجحت بولندا في حصده وتأمينه بفعل حرب أوكرانيا، كما أن موقفها من أزمة اللاجئين، ودورها في هذه الحرب؛ قد يدفع الدول الأوروبية إلى تبني نمط أكثر مرونة وفتح قنوات للتفاهم مع وارسو حول القضايا العالقة. ويُظهر ذلك مساهمة الحرب الحالية في ترميم علاقة بولندا مع حلفائها الغربيين، بعدما تحولت من حليف غير مرغوب فيه إلى مرتكز أساسي وضامن لأمن حلفائها.
4- توظيف الحرب في مواجهة تحديات الداخل البولندي: وفقاً لعدد من التقديرات، عانت الحكومة البولندية خلال الفترة السابقة للحرب الروسية – الأوكرانية تحديات عديدة أدت إلى تراجع مستوى التأييد والدعم الداخلي لهذه الحكومة. ومن بين تلك التحديات، ما ارتبط بجائحة كورونا، والخلافات مع الاتحاد الأوروبي وما نجم عنها من فرض مزيد من القيود التي حجّمت وقلّصت مساحة الحركة لبولندا، علاوة على التحديات الاقتصادية ومنها ارتفاع الأسعار وتراجع مستويات المعيشة، وغيرها من المشكلات التي تراجعت مؤخراً أمام المخاوف التي أفضت إليها الحرب، والتي دفعت الرأي العام بما في ذلك المعارضة البولندية إلى توحيد الجبهة الداخلية بهدف مواجهة التهديدات الروسية. إذ إن اعتبارات الأمن القومي، وفقاً لهذا المنطق، تتجاوز الانقسامات والأزمات الداخلية. وعلى الرغم من أن توظيف الحرب الحالية في تجاوز إخفاقات الداخل البولندي، يمكن أن ينتهي بمجرد زوال التهديد؛ بيد أنه يظل مكسباً نجحت الحكومة البولندية في تحقيقه.
جوار ملتهب:
ثمة ارتدادات يمكن أن تشكلها الحرب الحالية على بولندا. فعلى الرغم من المكاسب التي تحققت، يوجد عدد من الهواجس والانعكاسات السلبية ستؤثر على وارسو؛ ولعل موجة اللجوء الحالية، كأكبر أزمة للاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ستنعكس بشكل مباشر على بولندا لاعتبارات الجوار المباشر، حيث استقبلت الأخيرة، وفقاً للتقديرات، نحو 2.5 مليون لاجئ أوكراني منذ بداية الحرب في 24 فبراير الماضي وحتى يوم 9 أبريل الجاري. وعلى الرغم من سياسة “الباب المفتوح” التي اتبعتها بولندا وتعهدها بعدم منع أية لاجئ من دخول البلاد، فإن تكلفة تلك السياسة وتأثيراتها على المدى البعيد قد تصبح باهظة، كما قد تؤثر على البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
من ناحية أخرى، يمكن أن تصبح بولندا نقطة إشعال الحرب المفتوحة، وانخراط “الناتو” في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا. وبالرغم من المحاذير والقيود المرتبطة بهذا المسار، فإن الهجمات التي شنتها روسيا يوم 13 مارس الماضي على قاعدة عسكرية في مدينة “لفيف” والتي تبعد نحو 35 كيلومتراً عن بولندا، تضع مزيداً من الهواجس من احتمال توسع الحرب الحالية، إذ ما وصلت الهجمات الروسية – ولو على سبيل الخطأ- إلى الأراضي البولندية.
كما ساهمت الحرب الدائرة في تشكيل موقف أوروبي مغاير يضع في الاعتبار ضرورة بناء وتعزيز القدرات العسكرية، وحيازة المعدات النوعية والمنظومات المتقدمة. ولعل توجه بولندا نحو إقرار قانون للدفاع عن الوطن، والعمل على زيادة الانفاق العسكري من 2.2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي؛ يعد دليلاً واضحاً على اقتناعها بأهمية توجيه مزيد من الدعم والإنفاق للجانب العسكري، لتعزيز أدوات الردع ومواجهة التحديات القائمة والمستقبلية، التي يمكن أن تؤثر على الأمن القومي للبلاد.
في الأخير، زادت الحرب الروسية – الأوكرانية من أهمية بولندا لدى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، ونجحت وارسو في تأكيد دورها كأكبر عضو داخل حلف “الناتو” في أوروبا الشرقية يمكن الارتكاز عليه في الأزمات والطوارئ التي تقوض الأمن الجماعي لدول المنطقة؛ وهو ما وضعها على سلم الأولويات الغربية في الترتيبات العسكرية والأمنية والدبلوماسية والإنسانية المرتبطة بالتعاطي مع الحرب الحالية.
ويتضح من فعالية ومركزية الدور البولندي في تلك المواجهة، أنها لن تتخلى عن المكاسب التي حققتها حتى لو انتهت الحرب، بل ستعمل مستقبلاً على توسيع دورها في صياغة معادلة الأمن الإقليمي، وهو ما يظهر من توجه وارسو نحو زيادة إنفاقها العسكري وبناء شبكة من التحالفات الأمنية على غرار تحالف الأمن الإقليمي بين بولندا والمملكة المتحدة وأوكرانيا، خاصة أن أغلب التقديرات لدى وارسو تتوقع استمرار التوسعات الروسية مستقبلاً، وأن الحرب الحالية قد لا تكون الأخيرة.