القوى السياسية في العراق تواصل طرح المبادرات وتبادل الاتهامات

القوى السياسية في العراق تواصل طرح المبادرات وتبادل الاتهامات

تبدو القوى السياسية العراقية في وضع لا تحسد عليه بعد مرور 7 أشهر على إجراء انتخابات عامة (نيابية) أصرت هي تحت تأثير الاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة عامي 2019 و2020 أن تكون مبكرة. ذلك أن المهمة الأولى والأبرز للبرلمان العراقي الجديد، بعد أول جلسة له، في أعقاب انتخاب رئيسه، تتمثل في فتح باب الترشح لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في غضون 15 يوماً. إلا أن هذا البرلمان، بعد نهاية هذه المهلة الدستورية، ومع ترشح أكثر من 50 شخصاً لمنصب رئيس الجمهورية – الذي هو من الناحية العرفية من حصة الكرد طبقاً للمحاصصة العرقية والطائفية المعمول بها في العراق بعد عام 2003 – لم يتمكن من إنجاز هذا الاستحقاق الدستوري. ومن ثم، مع توالي الجلسات، الواحدة تلو الأخرى، وإعادة فتح باب الترشح للمنصب ثانية على إثر إقدام المحكمة الاتحادية العليا على استبعاد المرشح الكردي للمنصب، وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري، عجز البرلمان مجدداً عن انتخاب الرئيس العتيد.

على الرغم من كثرة عدد المرشحين لشغل منصب رئاسة الجمهورية، فإنه من الناحية العملية يتنافس عليه مرشحان اثنان فقط، هما مرشحا الحزبين الكرديين الكبيرين، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وفي حين رشح الاتحاد الوطني الكردستاني الرئيس الحالي الدكتور برهم صالح، الذي يعد أحد أكبر قيادييه، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة مسعود بارزاني) رشح هوشيار زيباري. ولاحقاً، على إثر استبعاد الأخير بقرار من الاتحادية رشح الحزب بدلاً منه وزير داخلية الإقليم ريبر أحمد.

الأسباب المباشرة التي حالت، ولا تزال تحول، دون قدرة البرلمان على انتخاب رئيس للجمهورية، تعود إلى أن أياً من التحالفين البرلمانيين الرئيسين، وهما «التحالف الثلاثي» بزعامة مقتدى الصدر – الذي يضم بالإضافة إلى «الكتلة الصدرية» كلاً من «تحالف السيادة» السنّي بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان، ورجل الأعمال خميس الخنجر، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني – و«تحالف الإطار التنسيقي» الشيعي الذي يضم معظم القوى الشيعية الأخرى، بمن فيها كثير من الفصائل المسلحة، عجز عن جمع غالبية الثلثين اللازمة لانتخاب رئيس الجمهورية (220 نائباً من مجموع 329 نائباً).

في طليعة الأسباب غير المباشرة لعجز أي من التحالفين عن جمع هذا العدد من الأصوات، الخلاف الشيعي – الشيعي المستحكم بسبب إصرار زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر على تشكيل حكومة «غالبية وطنية»، شعارها «لا شرقية ولا غربية»، مقابل إصرار «الإطار التنسيقي» – الذي يضم قوى مؤيدة لطهران – على تشكيل حكومة «توافقية». وبما أن تحالف الصدر لا يملك غالبية الثلثين، فإنه حاول وأخفق، عبر 3 جلسات برلمانية، تمرير مرشحه الكردي عن الحزب الديمقراطي الكردستاني لمنصب رئيس الجمهورية. وعلى الرغم من الدعوات التي وجّهها الصدر شخصياً إلى النواب المستقلين لكسب دعمهم، فإنه لم ينجح بسبب امتلاك خصمه «الإطار التنسيقي» ما بات يسمى «الثلث المعطل».

في ضوء هذا الواقع، أعلن زعيم «التيار الصدري»، قبيل حلول شهر رمضان الماضي «اعتكافاً سياسياً» لمدة 40 يوماً ينتهي في 9 شوال… أمهل خلاله خصومه في قوى «الإطار التنسيقي» تشكيل حكومة لا يشارك فيها الصدريون. وللتذكير، تضم قوى «الإطار التنسيقي» كلاً من ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«الفتح» بزعامة هادي العامري، و«عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي، وتيار «الحكمة» بزعامة عمار الحكيم، و«النصر» بزعامة الدكتور حيدر العبادي… إلى جانب فصائل مسلحة تصرّ بقوة على أن تخرج الكتلة الأكثر عدداً ممّن تسميه «المكوّن الاجتماعي الأكبر» في إشارة إلى الشيعة كونهم يشكلون غالبية سكانية مذهبية.

المراقبون السياسيون العراقيون رأوا أن مهلة الصدر هذه لا تأتي فقط لرمي الكرة في ملعب خصومه داخل «البيت الشيعي» الممزق، بل أيضاً لإحراجهم وإظهارهم أمام الناس أنهم غير قادرين إلا على التعطيل. ولكن، في المقابل، أعلنت قوى «الإطار التنسيقي» رفضها المدة الزمنية التي أعلنها الصدر.

وأكثر من هذا، ردّت قوى «الإطار» على دعوة الصدر لها بتشكيل الحكومة في غضون 40 يوماً، داعية إلى ما أسمته تعاون الجميع «ووضع أيدينا معاً، والتعاون على البر والتقوى» بوصفه الضمانة لتحقيق مصالح الناس. أيضاً، في حين أعلنت قوى «الإطار» أنها لم تسعَ إلى الانفراد بالسلطة، ولم تطلبها، كما لم تعمل على إبعاد الآخرين، فإنها قالت إنها كانت حريصة على التعاون معهم، وبالتالي «فإن الإطار غير معنيّ مطلقاً بتحديد مدد زمنية لن تنتج سوى إطالة أمد الانسداد السياسي وتعطيل مصالح الناس… وهو يسعى بكل جهده للوصول إلى تفاهمات واقعية مع القوى السياسية الأخرى، بعيداً عن التفرد أو الإقصاء، ترتكز على عدم جعل المكوّن الأكبر أصغر المكونات وأضعفها».

الصدر، من جهته، لم يرد على بيان «الإطار»، بل أمر أتباعه بتحاشي الرد والتصريح طوال مدة الاعتكاف التي استمرت طوال شهر رمضان الماضي. ولكن في مطلق الأحوال، الأهم بالنسبة لموقف «الإطار التنسيقي» هو أن أصل خلافه مع زعيم «التيار الصدري» هو إصرار «الإطار» – الشيعي القريب من طهران – على تشكيل الحكومة المقبلة مما يسميه «المكوّن الاجتماعي الأكبر»، في إشارة إلى المكوّن الشيعي، من منطلق أن الشيعة هم الغالبية السكانية في العراق. وبالتالي، فإن منصب رئيس الوزراء للمكون الشيعي، وليس لأي طرف آخر… حتى لو كان تحالفاً سياسياً عابراً للعرقية والطائفية على شاكلة تحالف «إنقاذ وطن»… الذي يضم «الكتلة الصدرية» والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف «السيادة» السني. وينطلق «الإطار التنسيقي» في تصوره هذا من كون منصبي رئيس الجمهورية والبرلمان هما للمكونين الكردي والسني.

اعتراف بالفشل

على صعيد آخر، تزامن مع الانسداد السياسي في العراق مرور ذكرى 19 سنة على إسقاط نظام صدام حسين عام 2003. ومع أن العراق أجرى بعد سقوط النظام السابق 5 دورات انتخابية، بما فيها الانتخابات المبكرة الأخيرة، فإنه بعد مرور ما يقرب من 7 أشهر على إجرائها، لم يجد القادة العراقيون بعد ما يقدمونه للمواطنين العراقيين في ذكرى مرور هذه المناسبة التي أريد لها أن تكون نقطة فارقة في تاريخ العراق، يحتفل بها كل سنة. لكن واقع الحال، أنه بعد مرور كل هذه السنوات، تحوّلت الانتخابات إلى مصدر إحراج للقوى السياسية العراقية، في وقت يصبّ الشعب بمختلف فئاته جامّ غضبه سنوياً على الطبقة السياسية، كونها لم تقدم لها ما كانت وعدت به.

رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، الذي كما سبقت الإشارة، أحد أبرز المرشحين لمنصب الرئاسة مجدداً، حذر من استمرار الأزمة السياسية الحالية التي يمر بها العراق. وفي بيان له يوم المناسبة، قال صالح إنه «في يوم سقوط صنم الاستبداد؛ الحاجة مُلحة لتلبية مطلب العراقيين بحكم رشيد، ومعالجة الخلل البنيوي في منظومة الحكم». واستذكر الدكتور صالح المناسبة التي كانت في أول أمرها مدعاة فرح لغالبية العراقيين، وذلك لجهة انتقالهم من نظام شمولي إلى ما يفترض أنه نظام ديمقراطي تصان فيه الحريات، ويجري تداول السلطة سلمياً. إلا أنه أقر بأنه «بعد عقدين من التغيير، يمر بلدنا بظرف حساس، وسط انسداد سياسي، وتأخر استحقاقات دستورية عن مواعيدها المُحددة. وهو أمر غير مقبول بالمرة، بعد مضي أكثر من 5 أشهر على إجراء انتخابات مُبكرة استجابةً لحراك شعبي وإجماع وطني، لتكون وسيلة للإصلاح وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي وتصحيح المسارات الخاطئة وتحسين أوضاع المواطنين والاستجابة لمطالبهم». بيد أن الجانب الأهم هو أن صالح جدد الدعوة إلى «عقد سياسي واجتماعي ضامن للسلم الأهلي، يقوم على مراجعة موضوعية لأخطاء الماضي».

 

موقف الحكيم

على أي حال، الشلل السياسي مستمر، بالتوازي مع الفشل في التعامل مع المعادلة السياسية الجديدة. ذلك أن إصرار السيد مقتدى الصدر على تشكيل حكومة «غالبية وطنية» يهدف إلى تخطي الوصفة الفاشلة السابقة، أي الحكومات «التوافقية»… التي تعني في النهاية «المحاصصة». ولكن الصدر لم يتمكن طوال هذه المدة من تشكيل حكومة «الغالبية» التي يريدها، وفي المقابل، لا يبدو «الإطار التنسيقي» جاهزاً للاعتراف بفشله في ضمان تشكيلها مع امتلاكه الثلث المعطل فقط. وليس بعيداً عن موقف «الإطار» هذا موقف زعيم تيار «الحكمة» عمار الحكيم. ولقد حذّر أخيراً من مغبة ما وصفه بـ«القفز على مبدأ التوافقية في العراق، والذهاب فوراً من دون حساب تدرج المراحل إلى حكومة الغالبية الوطنية».

ومن وجهة نظر الحكيم، أن الانتخابات التي أجريت في 10 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021 «خلقت حالة من اللاتوازن… أدت بدورها إلى حدوث اختلال واضح في العملية السياسية، ترتب عليه كل هذا الانسداد السياسي الذي تعانيه البلاد». وما يجدر ذكره هنا أن الحكيم كان من الزعامات السياسية العراقية الشيعية التي دعت في السابق إلى تشكيل حكومة «غالبية س ياسية»، إلا أنه الآن، بات في موقع مختلف عن المعادلة الجديدة التي يصرّ عليها الصدر. وهو (أي الحكيم) يعتقد أنه في حين لا توجد خلافات من حيث المبدأ على الذهاب إلى الغالبية الوطنية، فإن ما جرى إبان الانتخابات وما أسفرت عنه من نتائج، بات العراق أمام حصيلة تجعل من الذهاب إلى الغالبية من دون أن تكون «متوازنة»… مسألة محفوفة بالمخاطر. وبالتالي، لا يمكن القفز من «التوافقية» التي سارت عليها العملية السياسية طوال الفترة الماضية إلى حكومة «غالبية وطنية» أو سياسية.

واستطراداً، في حين يرى الحكيم أنه «بينما عولج الاختلال في النتائج في البيتين السني والكردي بشكل سليم إلى حد كبير، بقي هذا الاختلال قائماً في البيت الشيعي… مع أن النتائج التي حققتها قوى الإطار التنسيقي تكاد تكون متقاربة مع ما حققه التيار الصدري، وعلى الرغم من أن أصوات الإطار التنسيقي الانتخابية أكثر من أصوات التيار الصدري الانتخابية». وهنا نشير إلى أن الحكيم نفسه طرح مبادرة، دعا فيها إلى جلوس الجميع إلى طاولة حوار، تناقش فيه كل الرؤى والأفكار. ورأى أنه رغم أهمية الانتقال من الحكم التوافقي في العراق إلى نوع من الغالبية المتوازنة، «فإن القفز على المراحل لن يكون في صالح أحد، وهو ما يتوجب على جميع الشركاء النظر إليه برؤية وطنية وواقعية».

الشرق الأوسط