في الوقت الذي تتخوف فيه جميع الدول من الأزمة الأوكرانية التي من شأنها أن تضر بالأمن الغذائي المنهك بفعل تداعيات كورونا، تبدو دول الخليج مطمئنة بفضل استراتيجياتها الزراعية التي عملت خلال السنوات الماضية على تطويرها، بدءا من اقتناء الأراضي الزراعية الخصبة في الدول النامية وصولا إلى الاستثمار في التكنولوجيات الحديثة التي تجعل من الصحراء مساحات مثمرة.
تؤثر أزمة الغذاء العالمية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا على الشرق الأوسط بطرق متفاوتة؛ فقد كانت أشد وطأة على البلدان التي عانت بالفعل من عدم الاستقرار الاقتصادي والصراع قبل بدء الحرب مثل لبنان واليمن، بينما واجهت مصر -التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الحبوب والقمح من أوكرانيا وروسيا- صعوبة في إدارة الأزمة والحفاظ على استقرار الإمدادات الغذائية.
من ناحية أخرى صمدت دول الخليج وإسرائيل حتى الآن أمام هذه العاصفة بشكل جيد للغاية؛ فنهج الأمن الغذائي الذي تتبعه هذه البلدان يقدِّم الحلول اللازمة لمشكلات الغذاء العالمية، وهذه الحلول لن تصبح راسخة إلا بعد انتهاء أزمة أوكرانيا الحالية.
أساليب مبتكرة
دول الخليج أثبتت أن نموذج تصدير الزراعة الغذائية يمكن أن ينجح في معالجة مشكلة الأمن الغذائي لمجتمع صغير
تشتهر منطقة الشرق الأوسط بصعوبة زراعة المنتجات الغذائية. لهذا السبب كان الأمن الغذائي مصدر استياء طويل الأمد على الصعيد السياسي، وقد كان أحد الأسباب الرئيسية لثورات الربيع العربي عام 2011. فما بين نقص إمدادات المياه والظروف المناخية القاسية، تكاد تكون الزراعة على نطاق واسع مستحيلة باستخدام أساليب الزراعة التقليدية.
وقد دفع ذلك العديد من البلدان إلى التعامل مع قضية الأمن الغذائي بأساليب مبتكرة للغاية، وكانت إسرائيل أول من استخدم التكنولوجيا للحد من مشكلة ندرة المياه؛ فمن خلال تطوير تقنيات الري المتقدمة وجهود تحلية المياه وصل الإسرائيليون إلى مستوى من تحقيق الاكتفاء الذاتي من المياه مكَّنهم من الزراعة على نطاق واسع.
واضطرت دول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة، إلى اتخاذ خطوات مماثلة لتأمين إمدادات الغذاء والمياه؛ فالإمارات تحظى بأكبر احتياطي للمياه المحلاة في العالم يتمثّل في طبقة من المياه الجوفية في صحراء ليوا تحتوي على 26 مليار لتر من المياه واستغرق ملؤها ما يقرب من ثلاث سنوات. ويمكن أن يوفر هذا الاحتياطي، في حالات الطوارئ، ما يصل إلى 100 مليون لتر من المياه يوميًا. وتنتج أبوظبي وحدها 9 في المئة من إجمالي المياه المحلاة في العالم، أي حوالي 4.13 مليون متر مكعب في اليوم.
أما في ما يتعلق بالزراعة والإمدادات الغذائية فقد اشترت دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية مساحات كبيرة من الأراضي في مختلف أنحاء العالم لإنتاج الغذاء؛ فعلى عكس نهج مصر في استيراد الإمدادات الغذائية من أوكرانيا وروسيا، تمتلك دول الخليج الغنية أراضي في بلدان أخرى وتزرع المنتجات الغذائية خارج حدودها.
ولطالما كانت الإمدادات الغذائية مصدر قلق في المنطقة، لكن جهود تأمين الغذاء بدأت تتصاعد بقوة في عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية. ومع انخفاض أسعار الهيدروكربونات وارتفاع تكاليف الاستيراد، اضطرت حكومات الخليج إلى اتخاذ خطوات نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، ما أدى إلى شراء العديد من الأراضي في أفريقيا.
وفي صفقة طموحة تعود إلى عام 2015 وافقت شركة الظاهرة الزراعية التي يقع مقرها في أبوظبي على استثمار مليار دولار في المرحلة الأولى من مشروع زراعي بقيمة 10 مليارات دولار في وادي الهواد الخصيب في السودان.
وحاليًا تستثمر بعض دول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة، في التكنولوجيا الزراعية لضمان توفير الإمدادات الغذائية الكافية، وقد كانت لهذه الاستثمارات فائدة إضافية تتمثَّل في تعزيز المعرفة المحلية بقطاع التكنولوجيا الزراعية. وفي الواقع يمكن للشركة الناشئة التالية في مجال التكنولوجيا الزراعية التي سيحتضنها مشروع “وادي تكنولوجيا الغذاء” في دبي أن يكون لها تأثير عالمي يشبه إلى حد كبير ما أحدثته شركة تسلا من انقلاب في سوق السيارات الكهربائية.
إذا ألقينا نظرة عامة على ما يحدث فستظهر بعض الدلائل التي تؤشر على ما سيحدث في المستقبل من واقع كيفية تعامل منطقة الخليج مع أزمة الغذاء. وسيجبر تغير المناخ المزيد من البلدان على البحث عن أراضٍ خارج حدودها لزراعة المنتجات الغذائية. وبالفعل تفرض النظم الاقتصادية القائمة تطورات مماثلة؛ فعلى الرغم من المساحة الهائلة للأراضي الصالحة للزراعة في الولايات المتحدة، يأتي قدر كبير من الإمدادات الغذائية للبلاد من المكسيك، حيث زراعة المحاصيل أرخص. لكن هذا الحل سيف ذو حدين؛ ففي العام الماضي عندما حظرت الولايات المتحدة استيراد الأفوكادو من المكسيك التي تزرع 80 في المئة من الأفوكادو المستهلك في الولايات المتحدة، ارتفعت الأسعار إلى أعلى مستوى وصلت إليه منذ 24 عامًا.
أما شراء الأراضي من أجل توفير المنتجات الغذائية فقد يكون هو المستقبل، ومن المحتمل أن يسفر ذلك عن تأجيج القضايا الجيوسياسية في أجزاء معينة من العالم. ولا شك أن التوترات ستندلع إثر زراعة البلدان الأكثر ثراءً أراضي البلدان النامية من أجل توفير المنتجات الغذائية التي تُستهلك في الخارج.
ويمكننا أن نتذكر هنا كيف أن بلدًا غنيًا بالمعادن مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية مازال متخلفًا في نموه بشكل يرثى له بينما تجني البلدان والشركات الأكثر ثراءً الملايين من خلال استخراج الموارد الطبيعية لذلك البلد. فاليوم نتحدث عن استخراج الكوبالت والليثيوم لاستخدامهما في السيارات الكهربائية والهواتف الذكية، وغدًا سيكون حديثنا عن توفير المنتجات الغذائية.
لقد أثبتت دول الخليج أن نموذج تصدير الزراعة الغذائية يمكن أن ينجح في معالجة مشكلة الأمن الغذائي لمجتمع صغير، ولكنه ثري. بيد أننا بحاجة إلى النظر في ما ستكون عليه التداعيات عند اتباع هذا النهج على نطاق واسع.
إنَّ أزمة أوكرانيا ليست سوى نذير لمشكلة أعمق بكثير تتعلق بتوفير المنتجات الغذائية، بالإضافة إلى لوجستيات سلاسل الإمداد، والتي سيؤثر من خلالها تغير المناخ على الاقتصاد العالمي. ومع استمرار الخليج في بناء قطاع التكنولوجيا الزراعية واقتصاد المعرفة لديه، ثمة فرصة سانحة أمام البلدان الأخرى لمشاركة خبراتها في زراعة المنتجات الغذائية أيضًا.
وخلال السنوات القادمة سيحتاج المجتمع الدولي إلى توجيهات جديدة للتعامل مع هذه المرحلة الجديدة من مراحل الأمن الغذائي، وليس هناك من هو أفضل في قيادة هذه الجهود من بلدان الشرق الأوسط.
العرب