الباحثة شذى خليل*
يُعرف العراق سابقًا باسم “بلاد الرافدين” هو الاسم الذي كان يُطلق عليه في العصور القديمة، “أرض النهرين” نسبةً إلى نهري دجلة والفرات. كانت هذه المنطقة تاريخياً مهد الحضارات القديمة مثل السومريين والبابليين، حيث ازدهرت فيها الزراعة وتطورت العديد من الاختراعات والثقافات. نهري دجلة والفرات كانا ولا يزالان شريان الحياة للعراق، حيث تعتمد عليهما البلاد بشكل كبير في الزراعة والري وتوفير المياه العذبة. ومع ذلك، يواجه العراق اليوم تحديات كبيرة في إدارة موارده المائية بسبب التغيرات المناخية والسياسات المائية الإقليمية، مما يهدد استدامة هذا التراث الزراعي العريق.
ويشهد تراجعًا زراعيًا مثيرًا للقلق. خلال السنوات العشر الماضية، اذ شهدت البلاد انخفاضًا مذهلاً بنسبة 62% في الأراضي المزروعة بالمياه النهرية. هذا التراجع الحاد ليس مجرد إحصائية؛ بل يمثل تهديدًا كبيرًا للأمن الغذائي في العراق، والاستقرار الاقتصادي، وسبل العيش في المناطق الريفية. في هذا المقال، سنستكشف أسباب هذا التراجع ونحلل تداعياته الأوسع على البلاد.
التراجع في الزراعة المروية بالأنهار وفرت هذه الأنهار المياه اللازمة لري مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، مما دعم نمو القمح والشعير والأرز وغيرها من المحاصيل الأساسية. ومع ذلك، خلال العقد الماضي، تقلصت مساحة الأراضي المروية بهذه الأنهار بأكثر من النصف. تساهم عدة عوامل في هذا التراجع:
التغير المناخي: يواجه العراق ظروفًا أكثر حرارة وجفافًا، مع ارتفاع درجات الحرارة وتزايد عدم انتظام نمط هطول الأمطار. أدى ذلك إلى تقليل تدفق الأنهار وتقليل القدرة على دعم الري.
السدود وإدارة المياه في دول المنبع: قامت الدول المجاورة، خصوصًا تركيا وإيران، ببناء سدود وتحويل مياه نهري دجلة والفرات لاستخداماتها الزراعية والطاقة. أدى ذلك إلى تقليل كمية المياه المتدفقة إلى العراق، مما فاقم نقص المياه.
سوء إدارة المياه: تفاقمت المشكلة بسبب البنية التحتية للري المتقادمة في العراق وممارسات إدارة المياه غير الفعالة. العديد من أنظمة الري قديمة، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة في المياه عبر التسرب والتبخر.
تدهور التربة: عقود من الاستخدام المفرط والتملح والإهمال أدت إلى تدهور جودة التربة الزراعية في العراق. ونتيجة لذلك، حتى عندما تكون المياه متاحة، تصبح الأرض أقل إنتاجية.
التحليل: التداعيات الأوسع على العراق
للتراجع في الزراعة المروية بالأنهار تداعيات بعيدة المدى على العراق. وفيما يلي بعض المجالات الرئيسية للقلق:
الأمن الغذائي: مع تقلص الأراضي المتاحة للزراعة، تتعرض قدرة العراق على إنتاج ما يكفي من الغذاء لتلبية احتياجات سكانه للخطر الشديد. أصبحت البلاد تعتمد بشكل متزايد على استيراد الغذاء، مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسواق العالمية وصدمات الأسعار.
التأثير الاقتصادي: الزراعة جزء حيوي من اقتصاد العراق، حيث توفر فرص العمل لجزء كبير من السكان. أدى التراجع في الزراعة المروية إلى فقدان الوظائف، وزيادة الفقر في المناطق الريفية، وهجرة الناس من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية بحثًا عن العمل.
الاستقرار الاجتماعي: فقدان سبل العيش الزراعية وما يترتب على ذلك من صعوبات اقتصادية يساهم في الاضطرابات الاجتماعية. ومع كفاح الناس لتلبية احتياجاتهم، ترتفع التوترات، خاصة في المناطق الريفية حيث تتأثر المجتمعات بشكل أكبر بالتراجع في الزراعة.
التدهور البيئي: يؤدي تقليل الأراضي المزروعة أيضًا إلى التدهور البيئي. تنتشر ظاهرة التصحر، ويساهم فقدان الغطاء النباتي في المزيد من تدهور الأراضي. هذا يخلق حلقة مفرغة، حيث تصبح الأراضي المتدهورة أقل قدرة على دعم الزراعة، مما يؤدي إلى التخلي عن المزيد من الأراضي.
الطريق إلى الأمام
لمواجهة هذه الأزمة، يجب على العراق اتخاذ إجراءات فورية واستراتيجية. تحتاج الحكومة إلى الاستثمار في تحديث البنية التحتية للري وتنفيذ ممارسات إدارة المياه الأكثر كفاءة. قد يشمل ذلك اعتماد أنظمة الري بالتنقيط، التي تستخدم كمية أقل من المياه وتقلل من خسائر التبخر.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على العراق الانخراط في الدبلوماسية الإقليمية لتأمين اتفاقيات أكثر عدالة لتقاسم المياه مع دول المنبع. سيكون التعاون والدعم الدولي ضروريين في هذا الجهد، حيث أن موارد مياه دجلة والفرات هي قضايا عابرة للحدود تتطلب حلولاً تعاونية.
وأخيرًا، يمكن أن يساعد الاستثمار في استعادة التربة وممارسات الزراعة المستدامة في إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة وجعلها منتجة مرة أخرى. لن يحسن هذا الأمن الغذائي فحسب، بل سيخلق أيضًا فرص عمل ويدعم المجتمعات الريفية.
الخلاصة، يعد التراجع بنسبة 62% في الأراضي المزروعة بالمياه النهرية خلال العقد الماضي مؤشرًا واضحًا على أزمة المياه المتنامية في العراق. يشكل هذا التراجع تهديدًا خطيرًا للأمن الغذائي في البلاد، والاستقرار الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي. ومع ذلك، من خلال الجهود المشتركة في إدارة المياه، والتعاون الدولي، والزراعة المستدامة، يمكن للعراق أن يبدأ في عكس هذا الاتجاه وبناء قطاع زراعي أكثر مرونة للمستقبل. الوقت للعمل هو الآن، حيث لا يمكن أن تكون المخاطر على مستقبل العراق أعلى من ذلك
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية