شكلت قضية التضخم معضلة عالمية أفرزت عنها أزمات متنوعة تسببت في ضغوط في مؤشرات الاقتصاد العالمي لم يشهدها من قبل، وإن الضغوط التضخمية اليوم لا تشعر بها الاقتصادات المتقدمة فحسب، بل يشعر بها أغلب الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. ورغم اختلاف أسبابها عبر الدول، فإن مهمة حل المشكلة ستقع في النهاية على عاتق البنوك المركزية الكبرى في العالم.
وأخيرا عاد التضخم بسرعة أكبر، وارتفع بشكل أوضح، وأثبت كونه أكثر عنادا واستمرارية من كل ما تصورت البنوك المركزية الكبرى في البداية أنه ممكن. بعد أن هيمنت في مستهل الأمر على عناوين الأخبار الرئيسة في الولايات المتحدة، أصبحت المشكلة محور المناقشات السياسية في عديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى. في 15 من أصل 34 دولة تصنف أنها اقتصادات متقدمة.
ولا يقتصر هذا الارتفاع التضخمي على الدول الغنية، فقد ضربت الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية موجة مماثلة، حيث تواجه 78 من أصل 109 من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية معدلات تضخم سنوية أعلى من نحو 5 في المائة. وتتفاوت المحركات الرئيسة للتضخم من بلد لآخر، خاصة عند المقارنة بين الاقتصادات المتقدمة من جانب والأسواق الناشئة والاقتصادات النامية من جانب آخر.
ومن هذه الصورة القاتمة لم يترك التضخم منطقة في العالم إلا وأصابها. فقد أتى على شكل موجة، اعترف حتى قادة الدول المتقدمة بأن عليهم التعايش معها لفترة، بصرف النظر عن طولها. والتضخم (أو ارتفاع أسعار المستهلكين)، يختلف هذه الأيام من دولة لأخرى، وفق وضعيتها الاقتصادية العامة، واستقرارها السياسي، وقواعدها التنموية، وقوة احتياطيها من النقد، ومستوى البطالة، وحجم الدين العام، وعوامل أخرى تجعل التضخم مرتفعا هنا ومنخفضا هناك. فضلا عن مستوى قدرة الدول على مواجهته عبر كبح جماحه والسيطرة عليه.
ومن هنا، يمكن فهم الارتفاعات الهائلة للتضخم في بعض دول الشرق الأوسط، التي تعاني أصلا مصاعب اقتصادية حتى قبل ظهور المؤثرات السلبية التي تنال حاليا من الاقتصاد العالمي ككل. فالمشكلة الاقتصادية في بعض الدول تعاظمت في الواقع نتيجة تراكمات على فترات ليست قصيرة.
خمس دول تجاوز التضخم فيها 39 في المائة في الشرق الأوسط، وتعد نسبة مرتفعة للغاية، إذا ما عرفنا أن الحد الأعلى للتضخم المسموح به في أغلب اقتصادات العالم، خصوصا المتقدمة، لا يتجاوز 2 في المائة.
رغم أن هذه الاقتصادات نفسها تعاني الآن تضخما اقترب بالفعل من 10 في المائة. لكن الأمر مختلف على الساحة في الشرق الأوسط. فالاقتصادات التي ابتليت بتضخم مرتفع وبعضها “فلكي” حقا، تعاني أصلا علات اقتصادية مختلفة، زيادة على الاضطرابات السياسية المتفاقمة والمستمرة ولنا نماذج لأكثر من دولة وهي تحتل مراكز متقدمة في تصنيف معدلات التضخم، فضلا عن أن بعضها يشهد مواجهات عسكرية، “تآكلا” تلقائيا أي رصيد آت من النمو (إن وجد أصلا). فأغلب هذه الدول التي تعاني زيادة هائلة للتضخم، تعيش انكماشا اقتصاديا حتى قبل أن تظهر جائحة كورونا على الساحة، وقبل نشوب الحرب في أوكرانيا، وقبل استفحال أزمة سلاسل التوريد وروابطها، حتى قبل الحروب التجارية التي شهدها العالم في الأعوام القليلة الماضية.
والصراعات التي يعانيها بعض الدول في المنطقة لها رابط جيوسياسي أساسي، ما يفتح المجال لتوقع مواصلتها بصرف النظر عن طبيعة أي جهود لوقفها أو التوصل إلى حلول وسط حولها، أو حتى لتجميدها. ومثل هذه الصراعات تسبب عبر التاريخ انهيارا اقتصاديا لأطرافها. فحتى دول التحالف الكبرى التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، اضطرت لقبول مساعدات أمريكية لإعادة بناء اقتصاداتها، وتخفيف الضغوط الاجتماعية فيها المتولدة من نقص السلع وارتفاع أسعارها. هناك أيضا، خضوع بعض دول المنطقة لعقوبات دولية، قضمت بلا شك من اقتصاداتها مع الوقت، ولا سيما أن بعض هذه العقوبات يعود إلى أعوام عديدة.
كما أنه لا يمكن استبعاد عامل مهم يرتبط بمستويات ليست منخفضة للفساد، ما يزعزع قيمة العملات المحلية، ويضرب الاحتياطي من القطع الأجنبية، وغير ذلك من آثار خطيرة بعضها يستمر لفترة طويلة.
وإذا كانت الدول التي تتمتع باقتصادات مستقرة وقوية، بإمكانها بصورة أو أخرى الحد من التضخم عبر الآلية الأسرع وربما الوحيدة، وهي رفع الفائدة. فمثل هذه الأداة لا قيمة لها في اقتصادات بعضها غير متصل بالمنظومة المالية العالمية، وعملاتها خارج التعامل الدولي. ولذلك، فإن تضخم بعض دول الشرق الأوسط يظل مرتبطا بما يمكن تسميته تراكمات سلبية طويلة الأمد، وزادت مستوياته الفلكية أكثر في أعقاب الموجة التضخمية التي تضرب العالم، والتي من الواضح أنها مستمرة حتى منتصف العقد الحالي، استنادا إلى توقعات النمو التي تخفضها الجهات الدولية بين الحين والآخر. ولا شك في أن التضخم سيعمق المشكلات المعيشية في الدول التي يرتفع فيها إلى معدلات غير مسبوقة، وربما يسهم في تفاقم الأوضاع الأمنية أكثر. وهذه نقطة حذر البنك الدولي منها سابقا.