أصبحت القدرة الإلكترونية للدولة جزءًا من عناصر قوتها الشاملة، ويحاول الفاعلون المختلفون من خلال العمليات السيبرانية تحقيق أهداف سياسية، وهو ما ظهر جليًّا في الحرب الأهلية السورية. وفي هذا الإطار، نشرت دورية (Comparative Strategy) دراسةً بعنوان: (الأبعاد السيبرانية للحرب الأهلية السورية: الآثار المترتبة على الصراع المستقبلي) للباحث (أدوين جروه) الذي يعمل ضابطًا بحريًّا وزميلا بجامعة هوبكنز، وقد تم نشر المقال بتاريخ مايو 2015.
قراصنة النظام السوري:
1- الجيش السوري الإلكتروني: يشير الباحث إلى أن الجيش السوري الإلكتروني يعد الفاعل الأبرز في عالم الإنترنت فيما يتعلق بالحرب الأهلية السورية، وقد أُنشئ لتقديم رسائل مؤيدة لنظام الأسد ومضادة للأنباء القادمة من الخارج، وذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قام بعدة هجمات سيبرانية تحقيقًا لهذا الغرض، كما يستخدم صفحته على (الفيس بوك) لتجنيد أفراد جدد ليُنشئ ما يُشبه أكاديمية للقرصنة “hacking academy”.
كما استخدم هجمات حجب الخدمات لمهاجمة بعض المواقع الإلكترونية، ومنها على سبيل المثال موقع قناة “الجزيرة”، و”بي بي سي نيوز”، وقناة أورينت، والعربية، وتُشير هذه الهجمات إلى مدى القدرات التي يمتلكها الجيش فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية.
ومع تصاعد الصراع في سوريا منذ عام 2013، بدأ الجيش السوري الإلكتروني يُغيّر من أساليبه وعضويته ليصبح بمثابة جماعة قرصنة واسعة النطاق وليست مجرد كتيبة تابعة للدولة، وعلى الرغم من كونه يحتفظ بروابط مع نظام الأسد فإنه لا يُعد كيانًا حكوميًّا رسميًّا.
من ناحيةٍ أخرى، توجد أدلة على نية الجيش السوري الإلكتروني لاستخدام المجال السيبراني من أجل التأثير في الواقع. فعلى سبيل المثال قام بالاستيلاء على البيانات الموجودة على ثلاثة أنظمة اتصالات تحتوي على معلومات عن قوات المعارضة، مما يجعل أفراد المعارضة معرضين لعمليات اغتيال.
2- قراصنة ليونز للأمن: ويذكر الباحث جماعة قرصنة أخرى موالية لنظام الأسد تعمل في المجال الإلكتروني تسمى “قراصنة ليونز للأمن Security Lions Hackers SLH”، وهذه الجماعة لديها صفحة على الفيس بوك أيضًا، وخلافًا للجيش السوري الإلكتروني فإن شهرتها أقل، وإمكانيتها غير معروفة، كما أنها تهاجم المواقع بشكل عشوائي، ولا تنتقي مواقع بعينها، بخلاف الجيش السوري الإلكتروني الذي يهاجم مواقع الإعلام الغربية بشكل محدد.
خريطة المعارضة الافتراضية:
يُشير الباحث إلى أن القوات المعارضة داخل سوريا تستخدم المجال الإلكتروني ضد نظام الأسد بمعدل أقل مقارنة باستخدام القراصنة المؤيدين للنظام هذا المجال ضد المعارضة، وقد استخدم القراصنة المناهضون للنظام المعلومات والبرمجيات الخبيثة الموجودة على صفحة الفيس بوك الخاصة بالجيش السوري الإلكتروني عام 2011، وذلك لتنسيق هجماتهم الخاصة بحجب الخدمات ضد المواقع الخاصة بالنظام.
وتمت إعادة تنظيم هذه البرمجيات لمهاجمة أربعة مواقع موالية للنظام وهي: الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومحطة تلفزيون الدنيا، ووكالتان من وكالات الأنباء السورية، وكانت واحدة من أهم المواقف المحرجة للنظام السوري، حيث قام هؤلاء القراصنة بنشر رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بين الأسد وأفراد عائلته ومستشاريه، وقد ساهم نشر محتوى هذه الرسائل في رسم صورة ذهنية سلبية عن النظام. ومن أهم جماعات المعارضة الإلكترونية:
1- جماعة أنونيموس: ويذكر الباحث مجموعة قرصنة أخرى مقرها الولايات المتحدة تسمى أنونيموس “Anonymous”، والتي قامت باختراق حسابات إلكترونية متعددة في سوريا، وتشير الجماعة إلى أن لها عملية مستمرة داخل سوريا. ومع تصاعد الصراع السوري ترى الجماعة أن الأسد أكثر تهديدًا لحرية الإنترنت في سوريا، وأكثر عنفًا ضد الأبرياء من المعارضة، لذا ركزت جهودها ضد الحكومة السورية، وتحالفت مع القوى المناهضة للنظام، وتتحكم أنونيموس حاليًّا في أكاديمية القرصنة التي أنشأها الجيش السوري الإلكتروني.
2- جماعة أوليفر تاكت: توجد جماعات قرصنة أخرى تعمل في هذا المجال، منها جماعة مقرها الولايات المتحدة تسمى أوليفر تاكت “Oliver Tucket”، ولديها هدف واضح في سوريا وهو الحصول على المعلومات للتخلص من بشار الأسد، حيث قامت الجماعة باختراق أحد الخوادم الحكومية Government Server في سوريا، واطلعت على الوثائق وحركة البريد الإلكتروني، وأعادت توجيه المواقع والخدمات البريدية في محاولة لتشويه الحكومة السورية.
ويرى الباحث أن اشتراك جماعات –مثل: أنونيموس، وأوليفر تاكت- يؤكد حقيقة أن أي شخص يستطيع المشاركة في الصراع بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الموقع الجغرافي.
الدعم الأمريكي للمعارضة الإلكترونية:
تُشير الدراسة إلى أنه رغم امتلاك الولايات المتحدة جميع عناصر القوة الوطنية، سواء كانت دبلوماسية، أم معلوماتية، أم عسكرية، أم اقتصادية، أم مالية، أم استخباراتية، وذلك للتأثير على نظام الأسد؛ فإنها لا تستخدمها. بيد أن الولايات المتحدة الأمريكية على أرض الواقع تحمل عدةَ تأثيرات على المجال السيبراني، ويُساعد الائتلاف الوطني السوري على إزاحة نظام الأسد، فعلى سبيل المثال فإن المساعدات المالية التي تُقدم للمعارضة تدعم الروابط بينها وبين منظمات حقوق الإنسان ووكالات الأنباء الإلكترونية.
وتقوم وكالات الأنباء المدعومة من الولايات المتحدة بتدريب المدونين وبعض الأفراد داخل سوريا على صحافة المواطن، وغير ذلك من الأنشطة الإلكترونية لنشر المعلومات عن التطورات التي تحدث بالبلاد. هذا التدفق للتكنولوجيا والتدريب سيحسن من القدرات الأمنية للمعارضة، ويُحبط محاولات النظام لاستهدافهم عبر المجال الإلكتروني.
مسارات الصراعات المستقبلية:
يُوضح الباحث أن دراسة العمليات السيبرانية في الحرب الأهلية السورية كشفت عن العديد من النقاط الرئيسية التي يُمكن أن تُطبق على الصراعات المستقبلية، والتي يُمثل بعضها تكرارًا لما حدث في صراعات أخرى، والبعض الآخر يُطرح لأول مرة في سياق الصراع السوري، وتتمثل هذه النقاط في التالي:
1- وسائل التواصل الاجتماعي: تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في الصراعات، حتى في بلد يقل فيه انتشار الإنترنت مثل سوريا؛ حيث تقوم هذه الوسائل بتغطية الأخبار في الوقت الذي تعجز فيه وكالات الأنباء التقليدية عن ذلك، كما تستطيع القوة الإلكترونية الوليدة أن تؤثر في الصراع. فعلى سبيل المثال، رغم القدرات المتواضعة للجيش السوري الإلكتروني فإنه استطاع أن يكتسب شهرة كبيرة من هجماته الإلكترونية على وكالات الأنباء ومواقع التواصل الإلكتروني.
2- خصم مجهول الهوية: يُتيح المجال الإلكتروني عدم الكشف عن الهوية، بما يسمح لأي شخص أن ينشر أي شيء، ويحمل هذا في مضمونه ميزة وعيبًا، ويُعتبر ذلك عيبًا بالنسبة لشخص يسعى للحصول على الحقيقة، في ضوء صعوبة التحقق من صحة المعلومات المنشورة، أما الميزة فتكون لشخص يسعى ليُظهر نفسه كمصدر للثقة.
ومن ثم يصعب إسناد الهجمات السيبرانية إلى شخص ما، أو جماعة، أو دولة، فوجود عددٍ من الفواعل ذوي الأهداف المختلفة يجعل من الصعب معرفة ما يجري في المجال ومن المسئول. وتُشير عدد من الدراسات إلى الدعم الإيراني والروسي للعمليات السيبرانية الموالية للنظام، إلا أنه يصعب إيجاد دليل واحد على هذا.
3- دول التخريب الإلكتروني: فيما يتعلق بقيام دولة بعمليات التخريب الإلكتروني من قبل دول، يتم اللجوء إلى محكمة العدل الدولية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، والدعوة أمام المحكمة تحتاج إلى إسناد الاتهام إلى فاعل بعينه، وهذا يحمل صعوبة لأن الفاعلين الإلكترونيين يُخفون هوياتهم، وحتى إذا تم الإسناد إلى دولة بعينها فلا توجد قواعد دولية راسخة بشأن العقوبات في مثل هذه الحالات.
وتُشير الدراسة إلى أن قيام الدول باستخدام القدرات الإلكترونية الهجومية في الصراعات المستقبلية سيكون له انعكاساته على الشبكات الحكومية والخاصة التي تقع داخل أراضيها، وتُعرف هذه الظاهرة باسم رد الفعل العكسي؛ حيث يجب أن يُؤخذ في الحسبان القدرات السيبرانية للعدو، ونقاط الضعف لديه، ومرونة البنية التحتية لشبكاته تفاديًا للانتقام.
4- حروب افتراضية بالوكالة: يذكر الباحث أن هناك احتمالا لعمليات سيبرانية أخرى في سوريا، فقد كتب كلٌّ من (ديفيد سانجر) و(إريك شميت) في صحيفة “نيويورك تايمز” أن الولايات المتحدة كانت تُخطط لعمليات سيبرانية ضد نظام الأسد منذ بداية الصراع، ويصبح التساؤل: من سيرد على واشنطن في حال قيامها بهذا؟ وما هي حجم القدرات التي يمتلكها هذا الطرف سواء كانت سيبرانية أم غير ذلك؟ فالجيش السوري الإلكتروني لا يمتلك مثل هذه القدرات، ولكن روسيا وإيران تستطيعان.
ويعني هذا أن المجال الإلكتروني من الممكن أن يخلق الفرصة لحرب بالوكالة، ورغم قدرة الولايات المتحدة وروسيا وإيران على استخدام قدراتهم السيبرانية الكاملة في الصراع السوري، فإنهم لم يفعلوا ذلك، لأن مثل هذا سيُنتج دمارًا كاملا لسوريا بشكل لا يمكن تخيله، وسوف تصل تأثيراته إلى المدنيين، مما يسبب إدانة دولية، ويوسع من دائرة الانتقام.
وختامًا.. يرى الباحث أن العامل الإلكتروني في الحرب الأهلية السورية لعب دورًا هامًّا أكثر من المتوقع، لذا فمن يدرس العمليات السيبرانية ودورها في الصراعات كعنصر من عناصر القوة، عليه الاستفادة من دراسته، لأن من يتجاهل الدروس المستفادة سيعاني من العواقب.
أدوين جروه: زميل جامعة هوبكنز
عرض: وفاء ريحان / المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
المصدر:
Edwin Grohe، The Cyber Dimensions of the Syrian Civil War: Implications for Future Conflict، Comparative Strategy، Vol.34، No.2، May 2015، PP 133-148.