مرت 98 عاماً على إصدار وثيقة في شكل رسالة بعث بها وزير خارجية بريطانيا في حكومة لويد جورج، اللورد آرثر بلفور، في 2 نوفمبر/تشرين ثاني 1917، إلى المليونير اليهودي البريطاني، البارون روتشيلد، أبرز الرعاة الرئيسيين (بلغة اليوم) لعمليات الهجرة اليهودية والاستيطان فى أرض فلسطين العربية، توطئة لإقامة كيان يهودي صهيوني عليها، يتحول إلى دولة عبرية. وكان قد تم الاتفاق عليها في المؤتمر الصهيوني الأول الذي تم عقده في بازل في سويسرا، برئاسة تيودور هيرتزل، قبل إصدار رسالة بلفور المتضمنة الوعد المشؤوم بنحو 20 عاماً، بالتحديد فى ديسمبر/كانون الأول عام 1897، ومن المهم استعادة ترجمة حرفية لنص الرسالة الأصلية الموقعة من السير آرثر بلفور:
“عزيزي اللورد روتشيلد. يسرّني جداً أن أبلغكم، بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة، التصريح التالي الذي ينطوى على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مُقام/ وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية، المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. المخلص، آرثر جيمس بلفور”.
لم يكن اللورد بلفور، الذي حرّر تلك الرسالة التي تضمنت ذلك الوعد المشؤوم يهودياً ولا صهيونياً، ولا حتى متعاطفاً مع الحركة اليهودية. ولا كان رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت، لويد جورج، مؤيدا للحركة الصهيونية، ولا محباً لليهود. ولا كانت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، أو ضمن ممتلكاتها، فماذا كان الدافع وراء تقديم ذلك الدعم الذي استندت إليه الحركة الصهيونية، والتي كان يمثلها الاتحاد الصهيوني الذي أشارت إليه الرسالة، وتحول إلى الوكالة اليهودية، والتي كان رئيسها حاييم وايزمان، في تنظيم عمليات الهجرة الواسعة إلى فلسطين، وإقامة المجتمع اليهودي عبر سلسلة من المستوطنات شبه العسكرية، والتي تمتعت بالحماية البريطانية بعد ذلك، استناداً إلى ذلك التصريح أو التعهد الذي قطعته حكومة صاحب الجلالة على نفسه، وإن كانت قد التزمت بالجزء الخاص باليهود فقط، وتجاهلت الجزء الخاص بحقوق العرب، أو باقي الطوائف الفلسطينية، كما أشارت الرسالة.
لا بد من العودة إلى الموقفين، الدولي والإقليمي فى ذلك الوقت، الذي صدر فيه ذلك الوعد
البريطاني المشؤوم. كانت الحرب العالمية الأولى تقترب من نهايتها، وبشائر انتصار الحلفاء واضحة، ودولة الخلافة العثمانية في النزع الأخير، وكانت بريطانيا وفرنسا قد توصلتا إلى اتفاقية ترتيب أوضاع منطقة الشرق الأوسط، والمعروفة باسم سايكس – بيكو، في 1916، والتي تركت منطقة فلسطين بالتحديد لتكون خاضعة لإدارة دولية غير محددة. لم ينتبه العرب إلى ذلك، على الرغم من التحالف البريطاني مع ما تعرف بالثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين، شريف مكة، والذي شكل جيشاً عربياً بقيادة ابنيه عبد الله وفيصل، لمحاربة العثمانيين، بالتنسيق مع البريطانيين. في ظل تلك الظروف، نشطت الحركة الصهيونية على مختلف المستويات، وفي كل الاتجاهات، للضغط على صناع القرار في العالم في ذلك الوقت، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وكان الضغط الرئيسي على الحكومة البريطانية التي تقترب جيوشها من الاستيلاء على آخر معاقل العثمانيين في المشرق العربي، وهي فلسطين وسورية، وذلك بعد تعيين الجنرال، إدمون اللنبي في 27 يونيو/حزيران 1917، القائد الأعلى للقوات البريطانية التي أطلق عليها “التجريدة المصرية”، تشكيلها من القوات البريطانية الموجودة في القاعدة العسكرية في مصر، والتي كانت تحت الحماية البريطانية منذ 1914، وذلك بمهمة الاستيلاء على فلسطين وسورية، وهو ما تم في عامي 1917 & 1918 على التوالي. من هنا، كان التحرك اليهودي الصهيوني السريع لانتزاع وعد من الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، التي ستكون تحت سيطرتها. وبالفعل، تحركت قوات اللنبي بداية إلى غزة التي دخلها في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، ثم اتجه إلى بئر السبع، ثم إلى اللد التي اتخذها مقراً لقيادته، وأخيراً دخلت قواته القدس في 9 ديسمبر/كانون الأول 1917، بقيادة الجنرال شي قائد الفرقة 60. ووصل الجنرال اللنبي إلى القدس بعد ذلك بيومين، لينقل إليها مقر قيادته، ويعلن قيام الإدارة العسكرية لفلسطين، والتي قسمها إلى سبعة ألوية، القدس ويافا وبير السبع وغزة وحيفا والجليل ونابلس. وعين على كل لواء مديراً عامّاً عسكريّاً، وظلت فلسطين خاضعة للحكم العسكري المباشر حتى سنة 1920، عندما قررت بريطانيا وضع فلسطين تحت الانتداب (أقرته الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 1922، بهدف تنفيذ وعد بلفور)، وتم تعيين أول مندوب سامٍ بريطاني مدني، هو السير هيربرت صموئيل، وكان يهودياً صهيونياً متعصباً، واستمر في منصبه خمس سنوات، وبدأ على الفور في تفعيل وعد بلفور، بتمكين اليهود في فلسطين، بإسناد أعمال مقاولات عمومية إلى شركات يهودية، ومن خلالها يتم استقدام المهاجرين تحت ستار العمالة في تلك المشروعات، وازداد تعداد اليهود في تلك الفترة من 35 ألفاً إلى 103 آلاف؟
تلك كانت بداية قصة وعد بلفور المشؤوم، الذي تمر عليه الآن 98 عاماً، أوفت بريطانيا بوعدها في ما يتعلق بالعمل على إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، لكنها لم توفِ بالشق الثاني من وعدها بالحفاظ على حقوق أهل فلسطين. وجرت على أرض فلسطين دماء طاهرة كثيرة منذ كتب بلفور خطابه المشؤوم إلى روتشيلد واللجنة الصهيونية. وتعرّض الشعب الفلسطيني لأبشع تغريبة في التاريخ، حيث خرج الآلاف في عام النكبة 1948، تحت ضغط عصابات القتل الصهيونية التي تطاردهم، لكنهم وعلى الرغم من تلك الظروف القاسية، لم يفتهم أن يغلقوا أبواب دورهم، وأن يحتفظوا بمفاتيحها معهم، لتكون إرثاً لأجيالٍ من بعدهم، تتمسك بحقها في العودة إلى ديارها، وتتخذ من مفاتيح تلك الديار شعاراً لها، وحافزا للصمود والمقاومة. واليوم، ومع إرهاصات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، انتفاضة الفتية والفتيات من الجيلين، الثالث والرابع، لأصحاب الديار، يحملون المدى والسكاكين والحجارة، تُرهب جنود العدو، بينما يرفع الجدود والجدات مفاتيح دورهم في وجه قادة العدو، تذكّرهم بأنهم أصحاب الأرض المغتصبة.
وسيبقى حق العودة قائماً، وحتماً سيتحقق، طالما حافظت الأجيال على مفاتيح الديار، وطالما بقيت المقاومة حيةً من جيل إلى جيل، فهي مفاتيح العودة الحقيقية.
عادل سليمان
صحيفة العربي الجديد