نقاش السياسة الخارجية الأميركية مستمر قبل زيارة الرئيس جو بايدن إلى المنطقة وخلالها وبعدها. مستمر في واشنطن وعواصم العالم، لا سيما بعد حرب أوكرانيا. ومستمر بالطبع في الشرق الأوسط منذ قيام إسرائيل في عام 1948، ثم قيام ثورة الخميني الإسلامية في إيران عام 1979. وهي اليوم سياسة “تحتاج إلى صنع، لا مجرد تجديد أو استعادة”، كما تقول جيسيكا ماثيوز، الرئيسة السابقة لمؤسسة “كارنيغي”. فلا مجال للعودة إلى “ما قبل ترمب، لأن أميركا تغيرت والعالم تغير”. لكن بايدن يبدو أسير الاستعادة والتجديد.
بايدن كعضو في مجلس الشيوخ قال “خلافنا مع الرئيس جورج بوش الابن، على الرغم من تأييدنا للحرب في العراق، هو أن سياسته ساعدت في تقوية إيران ومد نفوذها”. وبايدن كنائب للرئيس باراك أوباما دعم الاتفاق النووي مع إيران من دون أي حد لنفوذها وما تسميه واشنطن “السلوك المزعزع للاستقرار” في الشرق الأوسط. وبايدن كرئيس ركز ولا يزال على الدبلوماسية للعودة إلى الاتفاق النووي من دون أي قيد على البرنامج الصاروخي والسلوك والنفوذ. وبين ما يشغله في زيارته وقبلها وبعدها هو توسيع “اتفاقات أبراهام” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. والبحث في ترتيب أمني إقليمي جوي لمواجهة خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية. والنفط والممرات والعمل على “كتلة دول متحالفة” في المنطقة تضمن مصالح هذه الدول والمصالح الأميركية.
لكن أميركا كانت ولا تزال جزءاً من مشكلة العالم العربي، وإن بدت كأنها تقود إلى الحل. والمشكلة مزدوجة من بين مشكلات أخرى، الاحتلال الإسرائيلي والتمدد الإيراني وفي الأمرين لأميركا دور. فضلاً عن أن إيران توظف ورقة الاحتلال الإسرائيلي في مشروعها الإقليمي. وإسرائيل توظف ورقة الخطر الإيراني في الدفع نحو “اتفاقات أبراهام” من دون الإقدام على تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي دقت ساعتها منذ عقود.
والتاريخ طويل مع رؤساء أميركا. لكن من الممكن الاكتفاء بما فعله آخر رؤساء أربعة، بوش الابن قام بأسوأ قرار هو غزو العراق من دون تصور لما بعد الغزو، إذ تمكنت إيران من التمدد إلى العراق وسوريا ولبنان. وكل ما فعله للصراع العربي – الإسرائيلي هو الإشارة إلى “حل الدولتين” ثم نسيان المسألة. باراك أوباما ترك لجمهورية الملالي حرية التحرك في المنطقة إلى جانب رفع العقوبات والاتفاق النووي، وتصور أن أفضل حل يريح أميركا من أعباء الشرق الأوسط هو إقامة توازن بين قوة سنية بقيادة تركيا وقوة شيعية بقيادة إيران. وهو حاول إيجاد تسوية فلسطينية – إسرائيلية لكن نتنياهو صده فتراجع. دونالد ترمب خرج من الاتفاق النووي ومارس سياسة “الضغط الأقصى” على إيران من دون أي بديل إذا رفضت طهران التفاوض على “اتفاق أقوى”. ولم ير قضية فلسطين سوى مسألة عقارية ومالية يمكن حلها بصفقة تجارية سماها “صفقة العصر” الفاشلة. وبايدن أعطى الأولوية للعودة إلى الاتفاق النووي واستخدام المفاوضين الذين عملوا في الملف أيام أوباما، لكن إيران طلبت أموراً لا يستطيع تقديمها خوفاً من الكونغرس والجمهوريين وعلى الانتخابات النصفية. أما “حل الدولتين”، فقد جعله مجرد عنوان لملف ليس على الطاولة حتى إشعار آخر.
اليوم يريد بايدن تأكيد البقاء في الشرق الأوسط إلى جانب التركيز على المواجهة مع الصين في الشرق الأقصى ودعم أوكرانيا ضد الهجوم الروسي وتوسيع “الناتو” وتعميق الموقف الموحد الأميركي- الأوروبي. لكن الغرب مارس خداع النفس مرتين، مرة بالرهان على “تحويل النظام الإيراني المتشدد إلى الاعتدال عبر الانخراط” كما يقول الخبير الأميركي من أصل إيراني كريم سادجادبور. ومرة بالرهان على أن يقود “الاندماج الاقتصادي الصيني بالنظام الليبرالي الاقتصادي العالمي إلى ليبرالية سياسية” كما يقول إليوت كوهن العميد السابق لمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.
والرهانات الوهمية مستمرة.
اندبندت عربي