القاهرة – تعد مسألة انخفاض الجنيه المصري أمام سلة العملات الأجنبية أحد أبرز انعكاسات الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر منذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وبالتالي بات المواطن العادي هو الأكثر تضررا.
وتسبب الانخفاض المستمر في قيمة الجنيه في معاناة المصريين من أزمة اقتصادية مركبة تتمثل في فقدانهم معظم قيمة مدخراتهم بالعملة المحلية من جهة، وارتفاع أسعار السلع والخدمات أضعافا مضاعفة من جهة أخرى، ولكن هذا الضرر الكبير بدأ فعليا عقب تعويم الجنيه في نهاية العام 2016.
قبل اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بلغ سعر صرف الجنيه أمام الدولار نحو 5.70 جنيهات، وبلغ أقصى انخفاض له 8.86 جنيهات قبل التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وهوى بعدها بشكل متسارع إلى 18.89 جنيها، ثم استقر ما بين 16 جنيها و15.6 جنيها بين عامي 2019 وحتى مارس/آذار 2022 حين هوى إلى 18.30 جنيها دفعة واحدة.
من وراء خفض الجنيه الحكومة أم صندوق النقد؟
رغم أن معظم البنوك الاستثمارية وبيوت الخبرة الاقتصادية والمحللين الماليين كانوا يؤكدون أن الجنيه المصري مقوم بأكثر من قيمته بنسب مختلفة ولكنها في كل الأحوال لا تقل عن 15% قبل الأزمة الروسية الأوكرانية، فإن البنك المركزي المصري كان يتبع ما تعرف بسياسة التعويم المدار، أي أنه هو الجهة الوحيدة التي تقرر سعر صرف الجنيه وليس آليات العرض والطلب، وهو ما أدى إلى نتائج عكسية في نهاية المطاف، بحسب هؤلاء المحللين، وزاد ذلك من الضغط على الجنيه.
للوهلة الأولى يبدو أن خفض الجنيه مرتبط بتوجه مصر في كل مرة إلى صندوق النقد الدولي، ولكن الصندوق ليس السبب في هذا الخفض، رغم أنه أحد أهم مطالبه. ووفق الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار، فإن المحافظة على سعر منخفض للدولار وتحديد أسعار الصرف إداريا من قبل البنك المركزي غير مقبول من صندوق النقد، ويؤدي إلى تشوهات في السوق، ويتسبب في ظاهرة التغيرات الحادة والمفاجئة كما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وأوضح في تصريحات للجزيرة نت أنه “إذا أرادت الحكومة تحديد سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأخرى، فيجب أن تمتلك سيولة كبيرة من العملات الأجنبية تستطيع من خلالها التحكم في قيمة الجنيه إداريا بدلا من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي”.
أسباب اقتصادية أم سياسية؟
بالعودة إلى سياسة البنك المركزي المصري، فإن خفض الجنيه لا تتحكم فيه أسباب اقتصادية فقط بل سياسية أيضا، وبحسب كبير المحللين الاقتصاديين في وكالة بلومبيرغ الأميركية زياد داود، فإن هذه الاعتبارات السياسية متعلقة بغلاء الأسعار وما ينجم عنها من آثار مجتمعية.
ولتوضيح الأسباب الاقتصادية التي تدفع مصر للتوجه إلى صندوق النقد الدولي ومطالبته إياها بخفض الجنيه، أوضح -في سلسلة تغريدات على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر- أن مصر تحتاج إلى 41 مليار دولار حتى نهاية 2023 لسد عجز الحساب الجاري وسداد الديون المستحقة، في حين لا يغطي الاحتياطي الأجنبي (33 مليار دولار) لوحده هذه الفاتورة.
ويرزح ثلث سكان البلاد، أي أكثر من 30 مليون مواطن، تحت خط الفقر، وفق إحصاءات رسمية عام 2019 غير محدثة، ولم تشمل تداعيات أزمة كورونا وما تلاها من أزمات اقتصادية خلال العام الماضي والحالي، إذ يتوقع خبراء اقتصاد أن يزيد هذا العدد بشكل أكبر.
وكشف رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب الدكتور فخري الفقي، في تصريحات متلفزة، أن “هناك تفاهمات تجري بين الجانبين بشأن مرونة سعر الصرف، والدعم بصفة عامة، والطاقة بصفة خاصة”.
كم تريد مصر؟
وكان وزير المالية المصري محمد معيط قد أكد -وفق تصريحات رسمية- أن حجم الدعم المطلوب من صندوق النقد الدولي أقل من 15 مليار دولار، ضمن آلية تسهيلات تمويل موسعة يجري التفاوض عليها بين الجانبين منذ عدة شهور.
وشرعت مصر أواخر عام 2016 في تنفيذ برنامج مع صندوق النقد لمدة 3 سنوات، تضمّن قرضا بقيمة 12 مليار دولار، تزامنا مع خفض قيمة العملة بشكلٍ حادّ وتقليل الدعم.
وفي 2020 حصلت مصر من الصندوق، بموجب اتفاق استعداد ائتماني، على 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار بموجب أداة التمويل السريع، مما ساعد السلطات في معالجة تأثير تداعيات كورونا، وفقا لبيانات الحكومة المصرية.
الجنيه بين التعويم والتعويم المدار
تظل مسألة قيمة الجنيه محل شد وجذب بين مصر وصندوق النقد الدولي، وفي هذا الصدد يوضح زياد داود فوائد وأضرار هذا الأمر ضمن سلسلة تغريداته في هذا الموضوع، قائلا “تخفيض الجنيه قد يقلل من الفجوة التمويلية من خلال تقليل الواردات لأنها ستصبح أغلى وزيادة الصادرات لأنها ستصبح أرخص، لكن لهذا التخفيض أعراض جانبية كبيرة، أهمها غلاء الأسعار خصوصا بوجود معدلات تضخم مرتفعة أصلا”.
ويحمّل داود الحكومة المصرية المسؤولية بسبب قيامها “بتثبيت سعر الصرف منذ 2017، رغم أزمات الدول الناشئة وكوفيد-19 وصعود أسعار الفائدة وارتفاع تكلفة الطاقة والغذاء، واعتمادها على الأموال الساخنة لتمويل عجزها، وبالتالي تراكمت الصدمات حتى احتاجت إلى تغيير كبير في سعر الصرف بدلا من تعديل تدريجي عبر السنين”.
ووفقا لزياد داود، يحتاج الجنيه إلى أن ينخفض بنسبة 23% قياسا للمستوى الحالي ليصل العجز المالي إلى مستوى معقول، أي أن يبلغ سعر الصرف 24.6 جنيها مقابل الدولار، مشيرا إلى أنه قد يحدث تخفيض لقيمة الجنيه لكن بدرجة أقل مما يحتاجه الاقتصاد.
البنك المركزي.. أداة في يد السلطة التنفيذية
في تقديره، يرى الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار أن قيام البنك المركزي المصري بتحديد سعر الصرف هو تدخل إداري غير مطلوب، قائلا “نظام أسعار الصرف إما أن تكون السوق هي أساسه وتتحدد الأسعار على أساس العرض والطلب، وإما أن يكون إداريا عن طريق البنك المركزي”.
وأضاف للجزيرة نت أن “معادلة تدخل البنوك المركزية تتوقف على معدل التضخم المستهدف ومعايير الاستقرار المالي المحددة سلفا، ولكن في اقتصاد عشوائي وغير منضبط وعدم وجود سياسة، يتحول دور البنك المركزي إلى ذراع إدارية للسلطة التنفيذية، وهو ما يتعارض مع قوانين إنشاء البنوك المركزية التي تنص على ضمان استقلاليتها عن الحكومة”.
كيف يمكن حماية الجنيه؟
يتفق مستشار التمويل والاستثمار الدولي الدكتور علاء السيد مع ما طرحه كبير المحللين الاقتصاديين في بلومبيرغ، مؤكدا أن لدى “الحكومة مخاوف من حدوث اضطرابات اجتماعية في حال انخفاض الجنيه بوتيرة أكبر وغلاء أسعار بشكل أسرع، وهو ما لاحظناه في اتباع المركزي المصري ما يعرف بسياسة التعويم المدار أي تثبيت قيمة الجنيه في حدود سعرية ضيقة طوال العامين الماضيين ولكن كانت النتائج عكسية”.
وأيّد السيد مطالب صندوق النقد بالسماح بمرونة أكبر في سعر صرف الجنيه ولكن بشروط، وقال “يجب أن لا تتحكم الدولة في سعر الجنيه وتمنعه من الخضوع لآليات السوق والعرض والطلب، ولكن شريطة إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليصبح اقتصادا إنتاجيا بدلا من الاقتصاد الجبائي، بحيث تضاف إيرادات جديدة بالعملة الأجنبية، ويزداد الإنتاج والصادرات وتنمو السياحة، مما يساعد الدولة على سداد ديونها وتحسين مستوى الدخل، وبالتالي سيعاود الجنيه ارتفاعه مجددا ولن ينهار ولن يحدث تضخم”.
المصدر : الجزيرة