بغية مواجهة ظاهرة الاستيلاء على الأراضي والممتلكات العامة في كردستان العراق، استعانت بلدية محافظة السليمانية أخيراً بقوات أمنية من “النخبة” (كوماندوز) لمواجهة مجموعات المافيا المدعومة من أشخاص متنفذين، في حين حذر مسؤولون ونواب من أن التجاوزات “تعدت الحدود”، وطالبوا بإعادة فتح ملفات بيع الأراضي التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
وكانت قوة من “النخبة” ومديرية أمن المحافظة لبت طلباً من رئيسة بلدية السليمانية ليلى عمر بعد شكواها من “صعوبة مواجهة مافيا متخصصة في الاستيلاء على الأراضي والممتلكات العامة”.
وقالت عمر خلال مؤتمر صحافي، “هناك بعض الأشخاص تحولوا إلى مافيا ليفرضوا سيطرتهم على أملاك البلدية من أراض ومحال تجارية، ونرى تدخلاً في المزاد العلني من أجل قطع مصدر العيش الوحيد للذين استأجروا هذه المحال منذ سنوات، وهؤلاء الأشخاص يقومون بشكل فاضح بفرض الإتاوات كما يحتلون الأراضي”.
وتخضع السليمانية ومعظم مناطق الإقليم من الجهة الجنوبية والشرقية إلى نفوذ حزب “الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني الذي يسعى إلى خلق قرار مركزي على مستوى قيادات الحزب المنقسمة إلى أجنحة عدة، فيما يستحوذ نظيره “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني على النفوذ في أربيل والمناطق من جهة الوسط والشمال ضمن واقع فرضته حرب أهلية خاضاها خلال تسعينيات القرن الماضي وقسمت الإقليم إلى إدارتين منفصلتين، قبل أن يتوصلا إلى اتفاق لتوحيدهما بوساطة أميركية، لكن الحزبين ما زالا يعانيان آثار ذلك الانقسام، وفي مقدمه إدارة موارد وعائدات الإقليم.
تعطيل مشاريع استراتيجية
مديرة البلدية ليلى عمر التي لم يمض سوى ستة أشهر على تسلمها المنصب أكدت أنها رفضت “78 مشروعاً استثمارياً لأسباب تتعلق بعدم اختيار الموقع المناسب، أو لكون قطعة الأرض المحددة قد بيعت قبل بدء المشروع أساساً”.
أما قيادة قوات “النخبة” المعروفة بـ “الكوماندوز” فأعلنت أن نشرها “قوة حول دائرة البلدية جاء بقرار من بافل طالباني، لأن بعض المسؤولين تمكنوا عبر التهديد من الاستيلاء على قطع أراض وتسببوا بعرقلة إقامة مشروع استراتيجي”.
ويأتي موقف عمر بعد أن تلقت دعماً صريحاً من نائب رئيس الحكومة قباد طالباني حين اجتمعا في فبراير (شباط) الماضي لدى تسلمها المنصب، وتعهد خلال الاجتماع “بالعمل الجدي لوقف التجاوزات وتشخيص الأسباب مع إيجاد حلول للمشكلة”.
وعقب تصريحات عمر أصدر زعيم “الاتحاد” بافل طالباني تحذيراً للمسؤولين في الحزب والإدارات الحكومية المدنية والعسكرية “من استغلال مواقعهم لتحقيق مصالح شخصية، بخاصة في مسألة الاستحواذ على أرض أو ملك عام أو التورط في مضايقة الموظفين والمؤسسات العامة”.
وقال إن “أي رفيق في الحزب وإن كان على أرفع مستوى، إذا ما ارتكب أية مخالفة من هذا النوع فإنه سيواجه عقوبة شديدة من قبل الحزب، كما سيحال إلى القضاء”.
لا عفو عما سبق
النائب علي صالح الذي يعرف شعبياً بـ “علي محاسبة” بسبب تقديمه بيانات تتعلق بملفات الفساد، قال إنه “في ضوء تحقيق كنا أجريناه قدمنا عدداً من المذكرات حول ملف الاستيلاء على 45 ألف قطعة أرض سكنية”.
وأضاف، “قبل أيام قدمت الملف إلى زعيم الاتحاد ونائب رئيس الحكومة وتعهدا بحل المشكلة، ومن الجيد أن يتم وقف هذه التجاوزات لكن يجب أيضاً استعادة ما تم الاستيلاء عليه في السابق ووقف كل التجاوزات على المخطط العمراني والمشاريع الخدمية”.
وفي السياق ذاته تساءل القيادي البارز في الحزب ملا بختيار خلال تصريحات أدلى بها للصحافيين، الأربعاء الـ 17 من أغسطس (آب)، عن “مصير الأراضي التي نهبت”. وشدد على أن “السليمانية برمتها تحتاج إلى مراجعة لوضعها الاقتصادي قبل كل شيء، فقد بلغنا مرحلة يلقي فيها السيد المحافظ مسؤولية النهب على الأحزاب، وها هي رئاسة البلدية كشفت عن ظهور جماعة من المافيا، وأرى شخصياً شبكة وليس مجموعة”.
واستدرك، “من الجيد أن يتخذ قرار لوضع حد لهذه المافيا، لكن هل يجوز أن نغض النظر عما جرى من سوابق؟”.
مواجهة صعبة
وعلى الرغم من أن الخطوة لاقت ترحيباً وارتياحاً واسعين، لكن بعض الأصوات أعطت صورة متشائمة عن قدرة الأجهزة التنفيذية على كبح الظاهرة، فالسياسي والنائب السابق عن كتلة “التغيير” عدنان عثمان علق في تغريدة عبر “تويتر” قائلاً “ليس صعباً وحسب، بل من السخرية أن ندعي القضاء على اقتصاد ومصادر تمويل العصابات وسلطة المافيات والميليشيات الحزبية، ففي أفضل الأحوال ستنتقل إلى سبل أخرى للكسب غير الشرعي والنهب”.
وأضاف، “في هذا الوضع القائم علينا أن نقرأ الفاتحة على الدولة والمؤسسات القانونية والقضائية وأجهزة الأمن”.
وتتزامن الخطوة مع إعلان الحكومة فتح باب التقديم رسيماً لإجراء معاملات تمليك للمنازل السكنية المتجاوز عليها من قبل المواطنين لما قبل نهاية 2020، وتشير التقديرات إلى وجود نحو 300 ألف منزل من دون أوراق تمليك في عموم الإقليم.
أما سكرتير مجلس المحافظة مهدي محمود فقد كشف عن تقديمه “مذكرة إلى مجلس الوزراء حول مسألة الاستيلاء على الأراضي والمشكلات الإدارية في السليمانية”، داعياً رئاسة البلدية “إلى التصدي بكل السبل لما يجري من نهب وتلاعب في الأراضي، وإذا لم تستطع فعلى الحكومة التدخل”.
وأكد نائب رئيس المجلس برزان محمد أن “هناك عدداً من أراضي الدولة حول السليمانية تم الاستيلاء عليها، في حين تعدت التجاوزات السكنية الحدود المعقولة، ومن يقوم بذلك هم أفراد متنفذون مدعومون من مسؤولين كبار، وهذه المشكلة لن تحل إلا بالقوة”.
تهديدات وإتاوات
صحف محلية أوردت أن الآلاف من أراضي القرى القريبة من مدينة السليمانية المملوكة للدولة استولى عليها مسؤولون ومتنفذون وتم بيع بعضها في سوق العقارات، وادعى مستأجرو بعض الدكاكين الصغيرة أنهم شاهدوا مشاركة أشخاص في المزاد العلني، مطالبين إياهم بمبالغ خيالية وإلا سيحرمونهم الفوز بالمزاد”.
من جانبه، ذكر النائب عن “الاتحاد” في برلمان الإقليم سركو كلالي في تصريحات لشبكة “روداو” المقربة من رئيس الإقليم بأن “بعض المسؤولين قدم الدعم لعدد من الشركات للاستحواذ على أراض تمتاز بموقع جيد، وقد ناشدنا الحزب وقف هذه الظاهرة التي يتحول من خلالها بعض الأشخاص إلى أغنياء فاحشي الثراء على حساب الشعب، في حين يتلقى الحزب اللوم لأن ذلك يجري باسمه”.
وأردف، “نضرب مثالاً بحصول إحدى الشركات من طريق الاستثمار على قطعة أرض تقدر مساحتها بنحو 500 دونم، لكنها باعتها بقيمة تصل إلى نحو مليار دولار، أي بسعر 800 دولار لكل متر مربع”.
تجاوزات بالجملة
ويقول النائب دابان محمد إن ما كشفت عنه رئيسة البلدية “هو جزء بسيط مما يجري، ومنذ عامين ونحن نصرخ من دون جدوى، وفي إحدى الحالات تم استخدام طائرة مسيرة من قبل قائد عسكري لمعاينة قطعة أرض، وبعدها قاموا بالسيطرة عليها وقسموها ثم باعوها باسم أسر الشهداء أو باسم السلك العسكري”.
وأردف، “رصدنا تحويل 100 قطعة أرض باسم امرأة، وهناك من يتمتع بدعم من مسؤول كبير أو مستثمر فيستحوذ على قطعة أرض من دون أن يمتلك أوراقاً أو إذناً رسمياً”.
وفي وقت سابق ذكر محمد أن “قيمة تعاملات البيع في السليمانية بلغت أكثر من ملياري دولار، وفي أربيل تفوق القيمة ذلك بكثير”، كما حذر من “تحويل موقع أحد خزانات توزيع مياه الإسالة في السليمانية بمساحة تبلغ نحو 8 آلاف متر مربع إلى مشروع مطعم في ظل الجفاف الذي يضرب المحافظة”.
وفي يونيو (حزيران) الماضي أعلن رئيس لجنة الزراعة النيابية عبدالستار مجيد “تحويل أكثر من 1.6 مليون دونم من الأراضي الزراعية إلى مشاريع أخرى ضمن ظاهرة منتشرة في جميع مناطق الإقليم”، منوهاً إلى أن “بعض المساحات أقيمت فيها مشاريع سياحية أو معامل، ويبدو أن الأراضي الزراعية لا أحد يحسب لها حساباً منذ سنوات”.
ورد المتحدث باسم وزارة الزراعة حسين كريم بالقول إن “المواد القانونية لا تسمح بإقامة مشروع غير زراعي على أرض مسجلة رسمياً على أنها زراعية”.
تعهدات بالإصلاح
وهاب هلبجيي قائد قوات “مكافحة الإرهاب” أصدر بياناً تعهد فيه “بتوفير الأمن لأننا فاعلون رئيسون في إجراء الإصلاح والتغيير، وأثبتنا بالأفعال أننا مع مشروع الإصلاح والرئيس بافل قلباً وقالباً”.
وأضاف، “كل ما نفعله من أجل الشعب، ومؤكد أننا لن نكون جشعين لنملأ جيوبنا ونقوم بتجويع الناس كما كان بعض يفعل قبل التغييرات التي حصلت في الحزب”.
وزاد، “لسنا من الذين يبعون الشعب والحزب والقيادة من أجل الكرسي والمنصب، وأي شخص يشك في ما نقدمه فيمكنه أن يطلع على جهودنا في الإصلاح وإنهاء الاحتكار، لأن التضليل لا يمكن أن يحجب شمس التغيير”.
وكان طالباني أقدم في يوليو (تموز) من العام الماضي على إبعاد شريكه في رئاسة “الاتحاد” لاهور شيخ جنكي الذي سبق وترأس “جهاز الاستخبارات” التابع للحزب إثر تفاقم خلافهما على الزعامة، ووجه إلى جنكي تهماً بـ “التورط في قضايا فساد وارتكاب مخالفات قانونية وإساءة استخدام السلطة على عكس مصالح الحزب، إلى جانب الاشتباه في تورطه بتسميم عدد من القيادات الحزبية”.
اندبندت عربي