يعيد مشهد محاولة اغتيال الكاتب والروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي في نيويورك تركيز النظر على إيران، ليس لأنها متواطئة في المحاولة الأخيرة، رغم اتهام اعلام لها (كما ورد في افتتاحية واشنطن بوست 15/8/2022)) لكن لأن الفتوى التي أصدرها آية الله الخميني ضد كاتب «آيات شيطانية» (1988) في عام 1989 حددت طبيعة العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة بنفس الطريقة التي وضعها احتلال السفارة الأمريكية في طهران وأزمة الرهائن في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية عام 1979. ومنذ ذلك الوقت ارتبطت السياسة الخارجية بمحاولات تحييد إيران أو دفع التغيير فيها ودعم أي محاولة تمرد داخلية شعبية ومحاولة حل الملف النووي الإيراني عبر الطرق الدبلوماسية التي لجأ إليها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وتوقيعه «خطة العمل المشتركة الشاملة» إلى جانب عدد من الدول الأوروبية والعالمية بما فيها روسيا والصين أو ما صارت تعرف بالاتفاقية النووية، عام 2015. وعشية فوز الرئيس دونالد ترامب قامت إدارته بتمزيق الاتفاقية والخروج منها عام 2018 وفرض استراتيجية ضغط جديدة تهدف لتركيع طهران وإجبارها على توقيع اتفاقية بالشروط الأمريكية تشمل تأثيرها في الشرق الأوسط وبرامجها للصواريخ الباليستية، وترضي بالضرورة مصالح حلفائها بالمنطقة في إسرائيل ودول الخليج. وأدى قرار ترامب الخروج لتسريع إيران جهودها النووية والتحلل شيئا فشيئا من التزاماتها، وخاصة نظام التفتيش الذي كلفت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتعهدت إدارة جو بايدن بالعودة إلى الاتفاقية أو الحفاظ على جوهرها وإخراجها بمظهر جديد. وتقول واشنطن إنها كانت تستعد للتوقيع على مسودة الاتفاق الجديد عندما تقدمت إيران بمطالب مثل تعهد الإدارة بتقديم ضمانات لا تتمكن من خلالها أية إدارة قادمة إلغاء ما اتفقت عليه سابقتها وشطب الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية. ولم تستجب إدارة بايدن لأي منهما، فيما لم تنجح جولة المحادثات في الدوحة بحزيران/يونيو بتخفيف المواقف.
وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» (17/8/2022) أن إيران أعاقت جهودا ترمي لإعادة إحياء الاتفاق النووي بعد طلبها ضمانات أمريكية بعدم انسحاب أي رئيس مستقبلي من الاتفاق كما فعل دونالد ترامب. مشيرة إلى أن هذه التطورات قد تصعب مهمة التوصل لاتفاق على واشنطن والدول الأوروبية. فقد طالب فريق التفاوض الإيراني من بين الأمور الأساسية في الرد على المقترح الأوروبي، التأكيد بأن الشركات الغربية التي تستثمر في إيران ستتم حمايتها إذا انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقية مرة أخرى كما فعلت. كما طرحت إيران آليات في الاتفاق من شأنها أن تسمح لها بزيادة أنشطتها النووية بسرعة إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق. وأكدت أنها ردت على المقترح المقدّم من الاتحاد الأوروبي ضمن جهود إحياء الاتفاق بشأن برنامجها النووي، في حين أكدت بروكسل أنه يخضع للتشاور بينها وبين الأطراف المعنيين وأبرزهم واشنطن. في إشارة لمقترح التسوية «النهائي» الذي قدمه الاتحاد الأوروبي المنسق للمحادثات غير المباشرة بين الفريق الأمريكي والإيراني وتراجعت إيران عن مطلبين رئيسين في مفاوضات العودة لإحياء الاتفاق النووي وطلبت شرطا جديدا للتوقيع على الصفقة، حسبما أفادت به صحيفة «نيويورك تايمز» في وقت سابق من اب/أغسطس، نقلا عن أشخاص مطلعين على المحادثات. فقد تنازلت إيران عن مطلب شطب الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية الأمريكية، بالإضافة إلى التخلي عن مطالباتها بضمانات عدم الانسحاب الأمريكي المستقبلي من الصفقة.
لا تضيعوا الفرصة
ورأت بربارا سلافين في مجلة «بوليتكو» (19/8/2022) أنه يجب على إيران القبول بالعرض الأوروبي المقدم لها على طاولة المفاوضات لأن إحياء الاتفاقية لن يساعد الإيرانيين العاديين فقط بل والحكومة أيضا. وقالت إن هناك عدة أسباب تجعل المسؤولين الإيرانيين مترددين في قبول أو رفض المقترح الأوروبي الأخير. فالمعسكر المهمين في إيران حافل بالمعارضين للاتفاقية ورأوا صحة مواقفهم عندما انسحبت الولايات المتحدة منها، في وقت التزمت فيه إيران وبشكل كامل بها، وهم قلقون، وهذا مفهوم، من أنهم لا يريدون الثقة مرة أخرى بوعود إدارة أمريكية جديدة. ولا يستطيع بايدن تقديم ضمانات بعدم خروج إدارة مقبلة منها، نظرا لاعتماد الرئيس على الأوامر التنفيذية وليس موافقة مجلس الشيوخ على الاتفاقية. كل هذا لا يعني أنه يجب على إيران غض النظر عن فرصة مثل خطة عمل مشتركة بحلة جديدة توفر لها منافع ولو على مدى قصير. فمن خلال نسخة معدلة من الاتفاقية، قد تتمكن إيران من الوصول إلى 100 مليار دولار من احتياطات العملة الصعبة والمجمدة حاليا في البنوك الأجنبية، وستتمكن وبسرعة من زيادة صادرات النفط في وقت يحتاج فيه العالم هذه البضاعة بشكل عاجل. وحسب بيجان خادجبور، المحلل المعروف للاقتصاد الإيراني، فإن صادرات النفط الخام قد تصل إلى 3 ملايين برميل في اليوم، أي ضعف الصادرات اليوم، بشكل يزيد من إيرادات الحكومة بـ 65 مليار دولار في العام وبناء على السعر الحالي. وسيشعر المواطن العادي بمنافع الاتفاقية، من ناحية عملة قوية وانخفاض معدلات التضخم، ويمكن للحكومة زيادة مالية صندوق التنمية الوطنية وإصلاح البنى التحتية المتداعية. وسيؤدي تخفيف العقوبات إلى زيادة التجارة الإقليمية المتبادلة والاستثمارات، بشكل يفي بأهداف الإدارة الإيرانية الحالية وهي التركيز على المجال الإقليمي. وبدون نسخة معدلة من الاتفاقية، فقد تزيد إدارة بايدن العقوبات على إيران وملاحقة عمليات تصدير النفط والوسطاء في دول مثل الإمارات العربية المتحدة. وبدون اتفاقية سيزيد التوتر الإقليمي بالترادف مع الملف النووي الإيراني وفيما يتعلق بقدرة إيران على إنتاج مواد انشطارية كافية للسلاح النووي، وهذا مهم لأن طهران وصلت إلى عتبة النادي النووي أو المرحلة التي تستطيع فيها إنتاج القنبلة النووية، وقصرت المسافة من سنوات إلى أشهر والبعض يقول لأسبوع. وحاولت إسرائيل اغتيال العديد من الباحثين النوويين وتخريب منشآت نووية وعسكرية أخرى في إيران. وفي زيارته الشهر الماضي لإسرائيل تعهد بايدن باستخدام القوة العسكرية كخيار أخير. ولو تم إحياء الاتفاقية النووية فإن قدرة إيران على تخزين اليورانيوم المخصب ستتراجع ولن يسمح لها بالحصول على كميات كافية لسلاح نووي إلا في عام 2031. كما وستوقف اتفاقية جديدة سباق التسلح في منطقة الخليج، وخاصة السعودية التي من المحتمل أن تتخلى عن مشاريعها مقابل خطوات بناء ثقة واستئناف العلاقات الدبلوماسية على الأرجح. وسيستفيد العراق من تراجع العداوة بين إيران وجيرانها العرب. ورغم تبني إيران استراتيجية التطلع للشرق، كما فعلت في السنوات الأخيرة، في محاولة منها للتعويض عن العقوبات الأمريكية والأوروبية، إلا أن تأثيرها باتفاقية معدلة سيزيد مع الصين وروسيا ويفتح باب التبادل التجاري والاستثمارات. وربما كان البائس يحب رفيقا، لكن لا يوجد سبب يدعو إيران التي قامت ثورتها عام 1979 على التحرر من القوى العظمى، بالتضحية بحرية المناورة ومنح روسيا المخرج. وبالتأكيد فاتفاقية معدلة لن تكون ترياقا لكل مشاكل البلد، ولن تجعل الإيرانيين أكثر تعلقا بنظامهم الذي زاد اضطهاده وقمعه مع دخوله العقد الخامس من عمره، لكنها ستعطي 80 مليون نسمة مساحة للتنفس وتساعد الحكومة على تخفيف بعض الضغوط الاقتصادية والتي تدفع السكان نحو الفقر وبمعدلات سريعة. ولو عثر المتعلمون على فرص للعمل في بلدهم فلن يروا حاجة للهجرة. وسينفع الاتفاق المعدل الرئيس إبراهيم رئيسي الذي مضى على توليه الرئاسة عاما. ولم يحضر رئيسي اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، ويأمل بحضورها هذا العام، مع أن الجدل سيثار حول سجله كقاض سابق واتهامات بقتل المعارضين، ولو تم الاتفاق على اتفاقية معدلة، فسيجد ما يتحدث به مع نظرائه الغربيين. وفي وقت يواجه فيه العالم أزمات متعددة، فلدى إيران القدرة على نزع فتيل قضية مهمة للاستقرار الإقليمي ومنع انتشار السلاح النووي. ويجب على حكومة رئيسي انتهاز الفرصة قبل أن تختفي.
المشكلة تظل بالثقة
وألمحت «واشنطن بوست» (15/8/2022) إلى أن هناك حاجة لثقة أمريكا بوعود إيران، متخذة من تعليق طهران على مقتل سلمان رشدي بأنه المسؤول عنه وأتباعه، ما أدى بوزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن بوصف التصريحات الإيرانية بـ«الحقيرة». ورأت أن المحاولة الأخيرة على سلمان رشدي قد تتناسب مع محاولات أخرى ضمن الانتقام لمقتل الجنرال قاسم سليماني عام 2020 بغارة أمريكية في بغداد. وفي تصريحات لـ «نيويورك بوست» قال هادي مطر المتهم بمحاولة قتل رشدي أنه معجب بآية الله الخميني وأنه لم يقرأ من أيات شيطانية سوى صفحتين. وفي هذا السياق رأت روبن رايت في «نيويوركر» (14/8/2022) أن آية الله الخميني لم يقرأ كتاب رشدي ولكنه استغله ليحرف الرأي العام الإيراني عن مشاكل الجمهورية، التي خرجت من حرب لا غالب ولا مغلوب مع العراق وخسرت مليون شخص ولم تكن تنتج نفطا كافيا. وهي نفس الطريقة التي استغل فيها الخميني، أزمة الرهائن الأمريكيين للتغطية على خلافات وتصدعات الثورة والصراع فيها. لكنها أشارت إلى تاريخ التوتر وأن الهجوم على رشدي يؤكد التوتر الذي لا يزال يتغلغل في كل التحركات الداخلية والخارجية التي تصدر عن الجمهورية الإسلامية.
سوء الفهم
ومهما كانت حظوظ إدارة بايدن وإيران في إحياء الملف النووي، فالمشكلة نابعة في مكان آخر، وهي عدم فهم الطرفين لبعضهما البعض أو على الأقل أمريكا، ففي مقال لكريم ساجدبور في «نيويورك تايمز» (12/8/2022) قال فيه إن فكرة معاداة إيران الإسلامية لأمريكا أصلها المتشددون الدينيون في المرحلة الأولى للثورة، حيث لا يزال هذا الجيل الأول يتصدر المشهد. فآية الله على خامنئي، 83 عاما ومرشد الجمهوية، تسلم مقاليد الحكم منذ سنة 1989 و«من بين أسباب طول عمر السيد خامنئي أنه يحكم إيران باليقظة المفرطة ووحشية رجل يعتقد أن الكثير من مجتمعه، وأعظم قوة عظمى في العالم، يطمحون إلى الإطاحة به» وفي ظله أصبحت معاداة الولايات المتحدة أساسا للهوية الثورية الإيرانية. وبناء على هذا، عملت إيران على تمكين الوكلاء الأقوياء في العراق وسوريا ولبنان واليمن، واستغلال الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان وكذلك التراجع الحتمي للولايات المتحدة ما أقنع إيران بنجاحها. وقد أعاقت هذه الدينامية محاولات إدارة بايدن إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
وعلى الرغم من أن البرنامج النووي ربما كلف طهران أكثر من 200 مليار دولار من عائدات النفط الضائعة، إلا أنه لم يردع إسرائيل عن تنفيذ اغتيالات وأعمال تخريب سافرة ضد المواقع النووية الإيرانية، فكلما كانت الولايات المتحدة أكثر التزاما بالدبلوماسية، قل شعور إيران بضرورة تقديم تنازلات، وحتى لو تم إحياء الاتفاق النووي، فإن نظرة طهران للعالم ستستمر. ولأن معاداة أمريكا باتت كامنة في روح الثورة الإيرانية، فليس من السهل تغييرها أو تطبيع العلاقة الأمريكية-الإيرانية كما حاولت العديد من الإدارات الأمريكية إجبار إيران أو إقناعها بإعادة النظر في روحها الثورية، والسبب بسيط، لان التطبيع قد يكون مزعزعا بشدة لاستقرار حكومة ثيوقراطية تقوم على محاربة الإمبريالية الأمريكية. وهنا سعت الولايات المتحدة لإشراك نظام من الواضح أنه يأبى الانخراط، وعزل النظام الحاكم الذي يزدهر بشكل منفصل. ومع ذلك؛ فقد أظهر النظام الإيراني بمرور الوقت أنه مؤثر للغاية بحيث لا يمكن تجاهله، وعقائدي للغاية بحيث لا يمكن إصلاحه، ووحشي للغاية بحيث لا يمكن الإطاحة به، وأكبر من أن يتم احتواؤه بالكامل. واللغز هنا هو أن عملية الانفتاح على العالم، من وجهة نظر إيران كفيلة بتقويض «عصابات» أصحاب المصالح الخاصة وتهديد النخب السياسية والعسكرية لأن المعركة لا تدور على السلطة حول الأيديولوجية الثورية أو الإسلام، بل تتعلق بمن يسيطر على موارد البلاد الهائلة. وخلق هذا مجتمعا لم يعد يؤمن بمثل الثورة بقدر ما يحاول التملق للنظام الحاكم. والمشكلة في محاولات أمريكا- احتواء وتغيير أو معاقبة- هي أنها قوت بسياساتها، وإن عن غير قصد النظام الحاكم. فخامنئي لا يريد عزلة تامة لنظامه ولا تكاملا كاملا مع العالم، فكل ما يريده هو بيع نفط البلاد في الأسواق العالمية بدون عقوبات. وهذا لا يعني أن خامنئي ليس صادقا في معاداته لأمريكا، لكنها تصب في مصلحته الشخصية. وبخلاف المحاولات الأمريكية التقارب مع النظام الإيراني أو على الأقل فتح علاقات معه، فليس لدينا نموذجا واحدا عن مبادرة المرشد الأعلى لأي حوار مع المسؤولين الأمريكيين على أمل تطبيع العلاقات. وعلينا أن نكون واضحين، فقد ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء كارثية من تمكين إيران في العراق بعد 2003 إلى انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية بحيث صار لإيران برنامج نووي أكثر تقدما بكثير. وعموما فمسألة تطبيع العلاقات مع أمريكا تضر بمصلحة النظام الحالي، الذي يعاني من أمراض عدة أهمها الفرسان الأربعة المترسخة في الاقتصاد الإيراني- التضخم والفساد وسوء الإدارة وهجرة الكفاءات، وتتمثل القواسم المشتركة بين إيران ومناطق نفوذها الإقليمية – سوريا ولبنان واليمن والعراق – في انعدام الأمن والفشل الاقتصادي والتعاسة العميقة. ويظل هدف خامنئي ومن معه هو تجنب إيران مندمجة مع العالم، والتطبيع مع الولايات المتحدة، ما سيحرم الجمهورية الإسلامية من الخصم الخارجي الذي ساعد في الحفاظ على ترابط قوات الأمن، وهي استراتيجية خاسرة على المدى الطويل وترتبط بخامنئي.
القدس العربي