قبل أيام من التئام قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» في سمرقند، في أوزبكستان، كان البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، في نور سلطان (الآستانة سابقا)، عاصمة كازاخستان، لحضور مؤتمر لقادة الديانات العالمية، ولعلّ وجوده هناك، في الوقت الذي تتزايد فيه التصّدعات العالميّة على خلفيّة الحرب الروسية الأوكرانية، أعطى لتحذيره عن «تأثير الدومينو» للنزاعات العسكرية على العلاقات الدولية، معنى لافتا يلخّص ما يحصل في العالم فعلا.
دعا البيان الذي اعتمده مشاركو القمة الدينية قادة العالم إلى «التخلي عن الخطاب العدواني والمدمّر الذي يؤدي إلى زعزعة استقرار العالم»، لكن الذي حصل، وقبل أن يجف حبر البيان أو يغادر كل المدعوين، من 50 بلدا، إلى بلادهم، كانت نيران المدافع والصواريخ قد امتدّت من أوكرانيا إلى حدود أرمينيا (ذات الأغلبية الأرثوذكسية) وأذربيجان (ذات الأغلبية الشيعية)، وكذلك إلى طاجيكستان وقرغيزستان، والأغلبية الدينية فيهما للمسلمين السنّة، كما أن الدولتين حليفتان لروسيا التي تمتلك قواعد عسكرية فيهما، وهما أيضا عضوان في «منظمة شنغهاي» آنفة الذكر، وكان رئيساهما، القرغيزي صادر جاباروف، والطاجيكي إمام علي رحمن، حاضرين في تلك القمة أثناء اندلاع النزاع!
في المقابل فقد شهدت القمة توقيع إيران، الخميس الماضي، مذكرة التزامات للانضمام إلى منظمة شنغهاي، وهو ما يؤهلها للحصول على العضوية الدائمة داخل ذلك الكيان الأمني الآسيوي الذي تهيمن عليه روسيا والصين، بحيث تشكّل الدول الثلاث، التي تمتلك ثروات وقوى عسكرية ونفوذا سياسيا واسعا يتخطى حدودها، محورا ثلاثيا ضمن ذلك الكيان الأمني شديد الأهمية والفاعلية تجمعه عناصر عديدة منها مواجهة العقوبات الأمريكية ـ الغربية على أعضائه، والصدع المتزايد الاتساع على خلفية اجتياح روسيا لأوكرانيا، وتسليح الغرب للأخيرة، والنزاع المستمر مع طهران حول مشروعها النووي، والتوتّر المتصاعد بين الصين وتايوان، الذي ازداد التهابا بعد زيارة نانسي بيلوسي، المتحدثة باسم مجلس النواب الأمريكي، والمناورات العسكرية المتواصلة لبكين حول الجزيرة.
لم تقتصر التداعيات العالمية على بوادر نشوء محور الاستقطاب الكبير الذي يشكّله تقارب الصين وروسيا وإيران، واندلاع المعارك الجانبية في بلدان كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، إضافة إلى تجدد النزاع الأذربيجاني ـ الأرمني، بل امتدّت طبعا إلى الصدع الآسيوي ـ الأوروبي، مع التوتّر الكبير بين تركيا، التي هي عضو في «الحلف الأطلسي» و«منظمة شنغهاي» معا، واليونان، على خلفيّة محاباة أمريكا للأخيرة، بالسماح بتزويدها بطائرات إف 16 ومنعها على تركيا، وبدعم الاتحاد الأوروبي لها في ملفات عديدة، منها عسكرتها المتزايدة للجزر القريبة من تركيا.
امتد «تأثير الدومينو» أيضا إلى داخل الاتحاد الأوروبي، مع الفوز الذي حقّقه اليمين المتطرّف في السويد، والفوز المتوقع كذلك له في إيطاليا، وفي تقارب هنغاريا مع روسيا، وصولا إلى اتجاه الاتحاد الأوروبي، مؤخرا، لوقف المنحة المالية لهنغاريا بسبب الفساد، وهناك أيضا الخوف القائم من اشتعال الأوضاع في البلقان، على خلفية الميل السياسي للصرب إلى روسيا، وتعرّض ألبانيا إلى عملية قرصنة إلكترونية كبيرة، اتهمت بها طهران.
يتطوّر المشهد العالمي في اتجاه استقطاب أكبر، ستكون الصين وروسيا وإيران (وكذلك كوريا الشمالية، التي أعلنت صراحة عن كونها دولة نووية، وأقرّت استخدام السلاح النووي في مواجهة الخطر الذي يتهددها) قلب الهجوم فيه، فيما تحاول أمريكا، الممتدة على محيطين، والتي تسيطر على بحار العالم، وحلفاؤها الأوروبيون، واليابان وأستراليا، الحفاظ على المنظومة العالمية الحالية، ومنع تطوّر النزاعات التقليدية إلى نووية، وإذا كانت الحرب النووية أمرا يصعب التكهّن بأبعاده الكارثية على مجمل كوكب الأرض، ناهيك عن أثرها على استمرار النظم السياسية الحالية وسكانها، فإن الأكيد أن النزاعات العالمية تزداد خطورة، وأن الاتجاه نحو استقطاب أشد، بين «المحور» الجديد و«الحلفاء» القدماء يفتح كل الاحتمالات على مصاريعها.
القدس العربي