جدل الحجاب في إيران بين الديني والسياسي

جدل الحجاب في إيران بين الديني والسياسي

لا يمكن اعتبار الجدل بشأن الحجاب في إيران موضوعًا جديدًا أو طارئًا، بل يمكن إرجاعه إلى أربعة عقود سابقة على الثورة الدستورية التي شهدتها إيران مطلع القرن العشرين، لكنه في العقود الأخيرة تحوَّل بفعل عدد من العوامل -من أهمها السياسات الحكومية والتغيير الاجتماعي- إلى موضوع يحوز على مساحة واسعة من النقاش الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد. وبينما صار الحجاب بحكم القانون رمزًا سياسيًّا، متجاوزًا مساحته العبادية والفقهية، بات خلعه في الأماكن العامة شكلًا احتجاجيًّا ربما يتجاوز موضوع الحجاب ليطال مسائل أخرى.

ولعل مسألة الإجبار أو الإلزام بخلعه أو ارتدائه كانت المحور الأبرز في مقاربة هذه القضية من قِبَل السلطة الحاكمة، سواء في الفترة البهلوية الأولى والثانية حين أُرْغِمَت النساء على خلع الحجاب، أو في عهد الجمهورية الإسلامية حيث تُجْبَر النساء بحكم القانون على ارتدائه.

وتتصادم وجهات النظر بين من يدافع عن السياسات الحكومية بشأن الحجاب ويرى فيها بعدًا دينيًّا ملزمًا من باب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ويتصدى لبيان وجاهة جعل الحجاب إلزاميًّا بحكم القانون، وبين من يدافع عن الحقوق الفردية ويقول بالبعد الشخصي للمسألة، وأنه ليس للدولة أن تجبر الناس على ذلك. وهناك طرف ثالث يقول بأهمية الحجاب، لكنه يُوجِّه نقدًا لاذعًا للإجراءات الحكومية، ويرى أنها أضرت ليس فقط بالرغبة في الحجاب والاقتناع به، بل أيضًا بصورة الإسلام ومكانته عند المجتمع الإيراني بصورة عامة.

1. منطلقات منهجية

أ- مشكلة البحث

تبحث الدراسة في إشكالية الحجاب في إيران، إذ لم تعد مجرد مبحث فقهي، بل أصبحت موضوعًا محوريًّا في الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي الدائر في البلاد، وفي ارتباط الحجاب بهوية المجتمع وملامح النساء فيه. من هنا، تُمثِّل عودة الجدل بشأن الحجاب في سياق إيراني متوتر -سواء في علاقاته الخارجية أو الداخلية- علامةً ذات دلالة في متابعة التطور الاجتماعي السياسي في الوعي الشعبي الإيراني، تستحق البحث والتقصي العلمي.

ب- أهمية البحث

رغم أن جدل حجاب المرأة في إيران يعود إلى نحو 150 عامًا، وكان جزءًا من التعبير عن هوية النظم الحاكمة واتجاهات السلطة وتطور الرؤى الاجتماعية، فإن العودة إلى هذا الجدل في مرحلة تاريخية معقدة وحاسمة في تاريخ البلاد المعاصر، تشير إلى تطورات ذات دلالة في بنية الطبيعة الدينية الإسلامية المسيطرة على إيران منذ أكثر من 40 عامًا. وليس لهذا الجدل مكان مفهوم أو متوقع في سياق الثورة (الثورة الإسلامية)، حيث يكون حجاب المرأة ملزمًا قانونًا، لذا فإن مجرد إثارته هو تطور ذو مغزى، كما أن سياقه العام داخليًّا وخارجيًّا، يُعزِّز من أهميته وضرورة التصدي له بالبحث.

ج- منهج البحث

استخدمت الباحثة في هذه الدراسة المنهجين الوصفي والتاريخي في معالجة الظاهرة ومناقشتها، فضلًا عن المصادر التاريخية من كتب ووثائق، ووظفت عددًا من المقابلات التي أجرتها في إطار بحثها لنيل درجة الدكتوراه حول سينما المرأة الإيرانية، وتضمنتها أطروحتها لتحليل محتوى الأفلام التي أخرجتها نساء في الفترة (1980-2008)، حيث كانت قضية الحجاب محورًا فيها، إضافة إلى قضايا سياسية واجتماعية وثقافية أخرى.

2. الحجاب في إيران: قرن ونصف من الجدل

في كتابه الضخم الذي جاء في مجلدين بعنوان “الرسائل الحجابية”(1)، ورغم تأكيده أن هدف الكتاب تقديم الرسائل الفقهية والمساهمات الاجتماعية للدفاع عن الحجاب، فإن الأستاذ بجامعة طهران المؤرخ الإيراني رسول جعفريان يُقدِّم توثيقًا لنشأة الجدل بشأن الحجاب في إيران، وكيف أصبح موضوعًا سياسيًّا واجتماعيًّا وفقهيًّا تتناوله الكثير من الطروحات والرسائل.

وتُفيد النصوص التي يوفرها الكتاب بأن مسألة الحجاب جاءت ضمن إطار النقاش حول الدفاع عن حقوق المرأة، الذي شهدته الدول الأوروبية وانتقل إلى العالم الإسلامي. وبالنسبة لإيران، نجد أن هذا النقاش يعود في تاريخه إلى أربعة عقود سابقة على الثورة الدستورية (1905)، ثم اتسع وأخذ بعدًا سياسيًّا واضحًا في فترة رضا شاه بهلوي الذي حكم ما بين عامي 1925 و1941 بعدما خلع آخر ملوك الأسرة القاجارية وهو الشاه أحمد شاه قاجار عام 1925، منهيًا حكم القاجاريين.

وكان الشاه رضا بهلوي يرى أن الحجاب الذي يُطلق عليه “الشادور” باللغة الفارسية، “سبب تخلُّف الإيرانيات”. ويُرْجِع كثير من المؤرخين أفكاره إلى تأثره بكمال أتاتورك بعد أن زار الشاه تركيا عام 1934، وعاد معجبًا بمظهر النساء السافرات في الشوارع والأماكن العامة. ونجد في مذكرات “صدر الأشراف” بيانًا لتأثير زيارة تركيا على رضا بهلوي، إذ يقول: “بعد السفر إلى تركيا، تحدث رضا شاه كثيرًا وشجع النساء على خلع الحجاب، في إشارة إلى التقدم السريع الذي أحرزته تركيا”(2)، ومع ذلك فإن شواهد كثيرة سابقة تدل على موقف عدائي من الحجاب حمله رضا بهلوي حتى قبل زيارة تركيا، وصل حدوده العليا بإصدار قانون ينص على نزع الحجاب، وجعل من ذلك التاريخ يومًا أسماه “يوم حرية المرأة(3).

وشهدت إيران في فترة سابقة على مجيء رضا بهلوي عددًا من النساء اللواتي نزعن الحجاب، وكان بعضهن شاعرات وصحفيات من أمثال صديقه دولت آبادي التي تنحدر من أسرة مؤيدة للثورة الدستورية، وقد درست في السوربون وكانت تخرج إلى الشارع دون حجاب، بل لقد كتبت في وصيتها أنها “لن تسامح النساء اللواتي يزرن قبرها بالحجاب”(4).

بموازاة ذلك كانت الساحة الفقهية والفكرية تشهد موجة من الكتب والرسائل التي تناولت موضوع الحجاب في حوزة قم والنجف(5). وعلى الدوام كان موضوع الحجاب من أصعب موضوعات النقاشات الجارية، وذلك لتعدُّد أبعاده: زاوية الشرع، وزاوية العرف، وزاوية الرؤى الجديدة (الغربية على وجه الخصوص)، وهو ما جعل الحجاب عملًا اجتماعيًّا بأرضية فقهية وعرفية ووطنية وعالمية في الوقت ذاته. وحملت النقاشات الفقهية الأولى في إيران نظرة إلى دعوات كشف الحجاب في إطار استعماري، وبدا ذلك واضحًا في الرسائل التي دُوِّنَت في العهد القاجاري وما أعقبها في فترة الحكم البهلوي(6).

ويُعَدُّ كتاب “مسألة الحجاب” لمرتضى مطهري من أكثر الكتب التي نُشِرت قبل الثورة الإسلامية، ولاقت صدى واسعًا داخل المجتمع وفي أوساط الجيل الجديد من علماء الحوزة، لكنه تعرض لنقد بعض المراجع الدينية. وفي المجمل، كانت هذه التطورات سببًا لحركة علمية واسعة فيما يتعلق بموضوع الحجاب داخل إيران، وقبل ذلك، كان يستحيل العثور على رسالة فقهية واحدة مستقلة حول الحجاب بين علماء الشيعة(7).

وقد دخل موضوع كشف الحجاب إلى إيران من مداخل عدة، أهمها الانفتاح على الأفكار الغربية ونشرها، وكان للمدارس الغربية الخاصة بالفتيات -والتي أُنشِئت في إيران- دور على هذا الصعيد. أما المدخل الثاني فهو العالم العربي، وخاصة الطروحات المصرية التي كانت تنتشر انتشارًا سريعًا في إيران، بينما يتمثَّل المدخل الثالث في تركيا ومسار التحديث الذي اتبعته. كما أن الأفكار الجديدة التي كانت تصل إيران عن طريق الهند كانت مؤثرة هي الأخرى. والملاحظ هنا أن مسألة كشف الحجاب في أفغانستان جاءت سابقة على إيران، وعندما زار ملكها طهران عام 1929 كانت مرافِقاته من النساء بدون حجاب، وهو ما أثار غضب عدد من رجال الدين.

ومن الواضح أن مسألة الحجاب في مصر وتناولها فكريًّا قد أثرت بشكل كبير على ذات القضية في إيران، ويُشار إلى قاسم أمين وكتابه “تحرير المرأة” كمثال بارز على ذلك، فقد تحمَّس له دعاة التجديد في إيران، وترجم أحمد مهذب الدولة كتابيه “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة” إلى الفارسية ونشرتهما وزارة الثقافة الإيرانية في ذلك الوقت، ولقيا ترحيبًا كبيرًا حتى من قِبَل بعض رجال الدين(8). في عام 2008، أُقِيم معرض في إيران تحت عنوان “كشف الحجاب بداية الغزو الثقافي” الذي بدأ في طهران، عن إجراءات حكومة الشاه رضا بهلوي في ثلاثينيات القرن الماضي لنزع حجاب المرأة الإيرانية. وقدَّم المعرض(9) وثائق ومستندات -تُعرض لأول مرة- توضح الأساليب التي انتُهِجَت لدفع الإيرانيين -رجالًا ونساء- بالقوة إلى تغيير طرق لباسهم والتوجه نحو الطراز الغربي(10). وكان الأمر يصل إلى عزل الضباط والمسؤولين الذين يرفضون تنفيذ إجراءات كشف الحجاب.

3. نساء إيران: الثورة والحجاب

مع تصاعد الثورة والرفض لحكم البهلويين، كان الحجاب رمزًا احتجاجيًّا، وأقبلت النساء على ارتداء “الشادور” كرمز للثورة ضد الشاه(11). وشاركت النساء بفعالية ومن جميع الطبقات والفئات -من الأمية إلى المتعلمة وذات التحصيل العلمي المرتفع- في الثورة الإسلامية، مما أدهش المراقبين عام 1978، فقد ارتدين الحجاب وتظاهرن في الشوارع وهتفن بشعارات مناهضة للشاه ومؤيدة لروح الله الخميني. وتساءل باحثون: من هؤلاء النساء؟ ولماذا يدعمن هذا الرجل المعمَّم؟ وماذا يردن تحقيقه؟ لقد كان انتشار الحجاب بين عموم النساء الإيرانيات من أبرز مظاهر العامين اللذين سبقا الثورة. ومع انتصار الثورة كان الحجاب و”الحجاب الإجباري” يدخلان سريعًا في بؤرة الصراع الداخلي، بين مؤيد ومعارض(12).

 في عام 1979، قال الخميني في لقاء مع طلاب قم: “النساء المسلمات يجب أن يخرجن بالحجاب الإسلامي.. لا تزال المرأة تعمل في المكاتب بالوضع السابق.. يجب على النساء تغيير أوضاعهن الخاصة.. لقد جرى إبلاغي بأن النساء في وزاراتنا عاريات، وهذا مخالف للقانون.. يمكن للمرأة المشاركة في العمل الاجتماعي، ولكن مع الحجاب الإسلامي”(13).

1.3. تقنين الحجاب الإجباري

جاءت كلمة الخميني السابقة يوم 6 مارس/آذار 1979، أي بعد شهر على انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقبل أن يتم تدوين الدستور والمصادقة عليه، وانتقد فيها لباس النساء في الدوائر الحكومية(14). وقبلها بأشهر، وفي مقابلة أجريت معه بالعاصمة الفرنسية باريس في ديسمبر/كانون الأول 1978، تناول الخميني قضية المرأة والحجاب: “لا فرق مطلقًا بين المرأة والرجل.. نعم المرأة في الإسلام عليها ارتداء الحجاب، لكن ليس من اللازم أن يكون شادورًا، بل يمكن للمرأة أن ترتدي أي لباس يستوفي شروط الحجاب.. نحن لا نستطيع ولا الإسلام يريد تشييء المرأة وأن تكون دمية بيدنا.. الإسلام يريد حفظ شخصية المرأة، وأن يصنع منها إنسانًا جديًّا ومنتجًا”(15).

وسرعان ما ووجهت الدعوات لفرض الحجاب باحتجاجات قادتها مجموعة من النساء في شمال طهران ووسطها وغربها، تحت شعار أن الحجاب لا يجلب العفة، بينما نشرت الصحف صور المظاهرة بجانب العنوان الرئيسي: “مطلب الإمام هو أن الحجاب الإسلامي في البلاد يجب أن يحترم”(16).

وترى دراسة(17) لمحمد السيد الصياد وربى البلوي أن هذه المعارضة الواسعة فاجأت رجال الدين “فتراجعوا مؤقَّتًا عن القرار، ثم استخدم النظام على مدار العامين التاليين خطة تدريجية لإعادة فرض الحجاب، ففُرِض أولًا في عام 1981 على موظفي الحكومة، وفُرِض على أي امرأة تدخُل إلى المكاتب والمباني الحكومية، ووُضعت إعلانات في مختلف الإدارات الحكومية والمرافق والمتاجر تمنع دخول المرأة: “يُمنَع الدخول دون ارتداء الحجاب” (ورود بدون حجاب إسلامي اكيدا ممنوع است)، ثم فُرِض على الطالبات”. وفي نهاية المطاف، وتحديدًا عام 1983، فُرِض الحجاب على جميع النساء -المسلمات وغير المسلمات- فوق سن التاسعة، فأصدرت السلطات قانونًا يُوجِب ارتداء الحجاب على جميع النساء، ومن ثمَّ بات الحجاب مقنَّنًا تُعاقَب من لم تلبسه بحُكم القانون(18).

في 8 مارس/آذار 1979 أجرت صحيفة “كيهان” مقابلة مع حجة الإسلام إشراقي صهر الخميني، قال فيها: “يجب مراعاة الحجاب وتطبيق الشريعة الإسلامية شعرة بشعرة، وهذا الموضوع يجب مراعاته في جميع المؤسسات والجامعات، لكن يجب ألا يغيب عن البال أن الحجاب لا يعني الشادور، ما دام شعر المرأة وأطرافها مغطاة وملابسها محتشمة. الشادور جيد، ولكن بسبب طريقة ونوع عمل المرأة، فإن تغطية الجسد والشعر أحيانًا بطريقة أخرى هي الحجاب.. وبحسب الإمام، يجب أن يُطبَّق الحجاب الإسلامي من قِبَل النساء في جميع أنحاء البلاد. وفيما يتعلق بالأقليات الدينية، كان الإمام يعتقد دائمًا أنه يجب احترام هذه الأقليات بكل الطرق، ولا شيء أفضل إذا ارتدت النساء من الأقليات الدينية الحجاب الإسلامي”(19).

وفي “كيهان” أيضًا نجد مقابلة مع آية الله طالقاني تحدث فيها عن فضائل الحجاب وضرورته للمجتمع وعفته، لكنه رفض أن يكون إجباريًّا، وقال: إن رأي الإمام الخميني بهذا الخصوص لا يتضمن إلزامًا، وإنما هو رأي الأب الناصح(20).

انتقلت المسألة إلى زوايا أخرى عندما بدأت النساء غير المحجبات يتعرضن لهجوم في الشوارع والأسواق، وهو ما عارضه الخميني بشدة، وقال في جواب على سؤال طُرِح عليه بشأن ذلك معتبرًا من يقومون به منحرفين أو أعداء للثورة، “لا يملك أحد حق التعرض لهؤلاء النساء، وهذا النوع من التدخل حرام على المسلمين، ويجب على قوات الأمن واللجان (الثورية) أن تقف في وجه هذه التيارات”(21).

وبعد مخاطبات متكررة للوزارات وإدارات الدولة صارت العاملات ملزمات بارتداء الحجاب، وشاع ذلك على شكل قانون غير مكتوب، حتى جاء العام 1981 حين صدر قانون التوظيف في الدوائر والمؤسسات الرسمية، والذي اعتبر عدم ارتداء الحجاب مخالفة، فأُلزِمَت المتاجر والأماكن العامة بوضع لافتات تقول: “بأمر من محكمة التصدي للمنكرات، نعتذر عن استقبال الزبائن الذين لا يراعون المظاهر الإسلامية”.

ويتحدث حسن روحاني في المجلد الأول من مذكراته، عن الجدل الدائر بشأن الحجاب في القوات المسلحة، ويقول بأنه كان من مروجي الحجاب الإجباري(22).

2.3. من التذكير إلى التعزیر

حتى العام 1983 لم يسن مجلس الشورى أي قانون يتعلق بالحجاب والعفاف، وحينها صادق على أول قانون يتعلق بلباس المرأة في إيران، وتضمنت المادة (102) من قانون التعزير المصادق عليه: “تجازى النساء اللواتي يظهرن في المعابر والأماكن العامة بدون حجاب شرعي بالتعزير، ويحكم عليهن بـ74 جلدة”.

واستنادًا إلى هذا القانون، فالنساء في الجمهورية الإسلامية -الإيرانيات وغير الإيرانيات، المسلمات وغير المسلمات- مكلفات بارتداء الحجاب الشرعي أمام أنظار العامة وفي الطرقات. وقال المدعي العام لطهران إن “جميع المسؤولين في الإدارات والمؤسسات الحكومية والشركات وسائر الأقسام الحكومية والخاصة، والأماكن العامة كالفنادق ودور الضيافة وصالات الحفلات والأفراح والمطاعم.. وجميع الأماكن العمومية؛ مكلفون -ومنذ تاريخ انتشار هذا البيان- بمنع دخول النساء اللواتي لا يلتزمن بالحجاب واللباس الإسلامي الصحيح”.

3.3. من التعزير إلى قانون العقوبات

كان قانون العقوبات الإسلامي المصادق عليه عام 1996، أهم قانون نظر إلى السفور كجريمة وتناولها في المادة (638)، حيث “يُعاقَب بالحبس من 10 أيام إلى شهرين، أو الجلد 74 جلدة، كلُّ من ارتكب -علانية- فعلًا محرَّمًا في الأماكن العامة والمعابر والممرات العامة. وإذا أقدم على فعل ليس مشمولًا بعقوبة لكنه يُشكِّل مساسًا بالعفة، يُعاقَب بالحبس من 10 أيام إلى شهرين أو بالجلد 74 جلدة”.

وكان توضيح هذه المادة قد ورد في نص المادة (102) من قانون العقوبات المصادق عليه عام 1983، وتنص على أن:النساء اللواتي يظهرن في العلن بلا حجاب شرعي يُحكم عليهن بالسجن 10 أيام إلى شهرين، أو بغرامة قدرها 50 ألفًا إلى 500 ألف ريال. وتُعطي المادة (22) من قانون العقوبات الإسلامي، القاضي صلاحية تبديل عقوبة السجن والجلد للمتهمين بالغرامة(23).

4.3. “الحجاب السيئ” في القاموس القضائي

 دخل مصطلح “الحجاب السيئ”، الذي يُطلق -وفق التصنيف الرسمي- على الحجاب الذي يُظهر خصلات الشعر ويُفصِّل معالم الجسد، إلى القاموس القضائي الإيراني، وجرى النظر إليه وإلى عدم ارتداء الحجاب بوصفهما جريمة بموجب القانون. وبدأ الحديث عن أن التصدي لهذه “الجريمة” يتطلب دعمًا ثقافيًّا وبنية تحتية اجتماعية. وفي هذا الصدد، وافق المجلس الأعلى للثورة الثقافية عام 2005 على قانون الآليات التنفيذية لتعزيز ثقافة العفة والحجاب، وهو قانون يهدف إلى إضفاء الطابع المؤسسي على “الحجاب والعفة” بمشاركة جميع المؤسسات والهيئات، وقد حددت جميع الواجبات التخصصية للهيئات التشريعية والتنفيذية فيما يتعلق بموضوع الحجاب بشكل دقيق ومحدد. وكانت مسودة هذا القانون على جدول أعمال المجلس الأعلى للثورة الثقافية منذ مطلع التسعينيات. بعد ذلك، وافق مجلس الشورى الإسلامي في عام 2006 على قانون تنظيم الأزياء والملابس، بغرض ضبط ما اعتُبر “فوضى” في سوق الملابس والأزياء المعروضة في البلاد (24).

وتشير الباحثة ليلا أسدي إلى ضرورة الانتباه إلى التناقض بين الرغبات الفردية للأفراد ومصالح المجتمع، وترى أن التدخل التشريعي في المجال الشخصي للأفراد يجب أن يكون في حد الضرورة ولا يزيد عن ذلك، وفقًا للمصالح، ووضع الضرورة كحد وسط بين الحقوق الشخصية وحقوق المجتمع حتى ينأى المرء بنفسه عن التطرف(25).

في عام 2017 نشر “تابناك” -وهو موقع مقرب من القائد السابق للحرس الثوري محسن رضائي- مقالًا جاء فيه أن فرض الحجاب كان بضغط من مجموعة متطرفة داخل النظام.

والإلزام بالحجاب أو عدم الإلزام به كان من القضايا التي أُثِيرت منذ بداية الثورة، وكان لها دائمًا خصومها وأنصارها. ويوضح المقال المشار إليه فيما يتعلق برأي الإمام الخميني في فرض الحجاب، أنه قال لآية الله مطهري الذي كان يعارض فرضه، إنه أيضًا لا يوافق على الحجاب الإجباري، لكنهم “ضغطوا عليَّ كثيرًا لدرجة أنني قلت إن الحجاب يجب أن يكون في الدوائر الرسمية”(26).

ويبدي الدكتور محمد علي أيازي -رجل الدين والأستاذ في الحوزة الذي دأب على إثارة قضية الحجاب الإجباري- مخالفته الشديدة لجعله إلزاميًّا وقانونيًّا، ورغم تأكيده أن وجوب الحجاب أمر مسلَّم به شرعًا، فإنه يعتقد أن فرضه بالقانون والإجبار أساء لصورة الحجاب والدين(27).

4. تحديات ما بعد الحرب وأسئلة المجتمع

مع العقد الثاني من عمر الجمهورية الإسلامية، شهدت إيران تحديات أعقبت الموافقة على وقف الحرب مع العراق. ومع بدء مرحلة إعادة البناء، كان واضحًا بدء النأي عن الشعارات الثورية(28)، وأخذت تحديات جديدة بالظهور، كان من أهمها: الدين على نطاق واسع والدين على نطاق ضيق(29). ويتعلق هذا التحدي بمساحة الدين في الحياة الخاصة للأفراد(30) ودوره في المجال العام وإدارة النظام الاجتماعي(31). وتقول وجهة النظر القائمة على إعطاء الدين مساحة واسعة بأن البشر في جميع مجالات حياتهم الشخصية والاجتماعية، بدءًا من الطعام واللباس والنوم والحركة، وصولًا إلى العمارة والسياسة وتشكيل الحكومة وتعيين الموظفين وإدارة الدولة.. وغيرها، يجب أن يلتزموا بالتعاليم الدينية ويخضعوا لأحكامها، في حين ترى وجهة النظر المقابلة أن حياة الإنسان مقسمة إلى جزأين: الدنيا والآخرة، وأن الإنسان يلجأ إلى الدين فيما يتعلق بأمور الآخرة، ويدير أموره الدنيوية بالطريقة التي يراها مناسبة. وتساءل هؤلاء: هل يُتوقع من الدين أن يجيب على جميع الأسئلة في العلم والفن وغيره، أم أن رسالة الأنبياء هي تربية الإنسان؟

ارتبط هذا التحدي بتحدٍّ آخر بصورة صريحة وملحة، وتمثَّل في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وهو ما استحوذ على مساحة كبيرة من النقاش الفكري الإيراني(32). وتحت عنوان التجديد الديني، سعى عدد من المنظِّرين إلى تبيان علاقة الإسلام بالديمقراطية، وكان واضحًا أن طروحاتهم تتعارض مع قراءة الفقه التقليدي للمسألة. وشهد العقد الثاني من عمر الجمهورية الإسلامية طروحات عديدة تتعلق بالدين والحرية، والدين والديمقراطية، وكانت الصحف والمطبوعات تواصل نشر الجدل حول هذه القضايا.

ولم يقتصر النقاش على العناوين العريضة للمسألة، بل طال الكثير من العناوين الفرعية الخاصة بالحقوق الفردية وحقوق النساء وحقوق المواطنة والمساواة، ومنذ العام 1996 بدأت الصالونات الفكرية تناقش هذه القضايا. وحاول بعض المنادين بالديمقراطية أن يجمعوا بينها وبين الإسلام، ولكن مع فوز الإصلاحيين لاقت الشعارات المتعلقة بالمواطنة والمجتمع المدني وحقوق المرأة -والتي أطلقها محمد خاتمي- رواجًا واسعًا، وتجاوزت حدود المحافل الفكرية لتنتشر في المجتمع، وشهدت إيران نشوء حركة مجتمع مدني غير أيديولوجية، وهو ما عمَّق من التحديات.

لقد أوجدت التطورات السابقة حالة من التساؤل حول جميع التعاليم الدينية التي تُعارض الحقوق الفردية، وارتفعت الأصوات المطالبة بإعادة النظر جذريًّا في الأصول الدينية المتعلقة بالردَّة والرجم وأحكام الإرث والديَّة والحجاب، والإلزام وتعارضه مع حق الانتخاب الحر، والمجال العام والخاص، وفرض الحجاب ونمط الحياة.

5. الحجاب في السينما الإيرانية: الرقابة والتحايل عليها

مسألة المرأة والحجاب في إيران ليست قضية مدنية أو دينية فحسب، بل هي أيضًا حجر الأساس لواحد من أكثر الصراعات الاجتماعية حدة، إذ ترك أثرًا حاسمًا في تاريخ الجمهورية الإسلامية وانعكس في مجالات عدة، وكانت السينما أحد هذه المجالات ومن أهمها(33).

قبل الثورة، فرضت “الإصلاحات الجديدة” التي قادها الشاه محمد رضا بهلوي، تأثيرها على موضوعات السينما الإيرانية وصورة المرأة فيها، فأعطت الحجاب تقسيمًا طبقيًّا واضحًا، وصوَّرت الأفلام السينمائية نساء الطبقة الأرستقراطية (شمال المدينة) بدون حجاب، وفي الجزء الجنوبي من المدينة كان الوضع مختلفًا. حتى لو حدث العكس وذهبت امرأة من جنوب المدينة إلى شمالها، كانت تخلع شادورها وتظهر بلباس مختلف. ففي فيلم “كنج قارون” (كنز قارون) مثلًا، ترتدي “شهلا” الحجاب في جنوب المدينة وتتخلى عنه في شمالها، وعندما تذهب “بونه” إلى جنوب المدينة لرؤية جلال الميكانيكي، ترتدي الخمار(34).

وفي أطروحة جامعية بعنوان “تمثيل وظائف المرأة في السينما الإيرانية”(35)، أجرت هلن همتي تحليلًا لمحتوى أفلام المرأة العاملة في السينما منذ العام 1930 إلى ما بعد الثورة الإسلامية، وقسمت تلك الأفلام بحسب المراحل الزمنية الخمس التي مرت بها السينما الإيرانية:

– المرحلة الأولى (1930-1938): استخدام النساء للترويج لكشف الحجاب في الأفلام.

– المرحلة الثانية (1948-1960): كانت أدوار النساء في الغالب مغنيات في المقاهي والملاهي الليلية (مغنية ومنظفة وخادمة وراقصة).

– المرحلة الثالثة (1961-1970): كانت النساء في الأفلام من العاهرات ونساء الليل وبنات الشوارع ومن مجتمع اللصوص والمهربين والقرويين.

– المرحلة الرابعة (1971-1979): ظهرت موجة جديدة في السينما جرى فيها توظيف المرأة واستخدامها كذريعة لمشاجرات بطل الفيلم مع الشخص المعادي، وتعرض هذه الأفلام المرأة الإيرانية مظلومة وعاجزة. والنساء ربات البيوت عيونهن معلقة على باب المنزل ينتظرن عودة الرجل.

– المرحلة الخامسة (1980-1997): حصل انخفاض كبير في عدد الموظفات اللاتي تصورهن الأفلام. ويُلاحظ أيضًا أن النساء المحرومات اجتماعيًّا (الراقصات والمغنيات والبغايا) يُستبعدن من المشاركة في الأفلام.

وتشير الأطروحة إلى أنه مع نهاية الحرب وبداية السينما شبه الواقعية الجديدة في إيران، أصبحت السينما تعكس أدوار النساء في الواقع، لكن مع ذلك بقيت أدوارهن في الأفلام هامشية مقارنة بأدوار الرجال(36)، كما أثَّر فرض الحجاب على وجود المرأة في السينما والأدوار التي تؤديها.

ورغم هذه القيود، برز اسم سوسن تسليمي في أفلامها القليلة لتقدم صورة مختلفة لدور المرأة التي طالما تم تجاهلها في السينما الإيرانية، لكن تلك القيود نفسها حالت دون استمرار الممثلة التي شاركت في خمسة أفلام فقط لبهرام بيضائي، مُنِع عرض اثنين منها بسبب عدم التزام الممثلات بالحجاب.

وبقيت قضية غطاء الرأس واحدة من القضايا الإشكالية التي تواجه السينما الإيرانية، ويرى كثيرون أنها تجعلها غير واقعية في الكثير من الأحيان، ومثال ذلك تصوير المرأة بالحجاب وهي داخل بيتها، أو وهي في سرير نومها.

ومع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، شهدت السينما الإيرانية ظاهرة “النساء الحليقات”(37) اللاتي يظهرن دون خمار يغطي الرأس. وبدأ مشهد الرؤوس الحليقة يتكرر في الأفلام السينمائية، وكانت مشكلات حضور المرأة في السينما حجة هيَّأت الطريق أمام ما يُسمَّى “كسر التابو” من خلال حلق الشعر. وجاء فيلم “بنات الشمس” (دختران خورشيد) لمريم شهريار عام 1999 ليصور فتاة مراهقة تظهر في هيئة ولد تعمل في نسج السجاد. وفي العام نفسه قدَّم مجيد مجيدي في فيلمه “الشتاء” (باران) فتاة أفغانية صغيرة تجبرها ظروف الحياة على التخفي بهيئة ولد لتعمل في ورشة للبناء. وبالشكل نفسه قدَّم المخرج حميد رضا أشتياني في فيلم “الرعد” (تندر) فتاة صغيرة -في قالب تَخَيُّلي- ترتدي “باروكة” شعر تُظهرها بمظهر رجولي(38).

في المحصلة، استندت الأفلام الثلاثة إلى القيود البنيوية المتعلقة بحضور المرأة في السينما، وسعت من خلال التركيز على الهوية إلى تصوير واقع المرأة بشكل تراجيدي. وفي السياق ذاته، جاء فيلم المخرجة منيجه حكمت المعروف “سجن النساء” (زندان زنان) وقدَّم بطلته السجينة حليقة الرأس.

واستمرت قصة الشعر المحلوق، لكنها اتخذت أشكالًا عصرية، وجاء فيلم “الشباب السيئون” (بچه هاي بد) للمخرج علي رضا داود عام 2000، ليُصوِّر فتاة شابة برأس حليق مكشوف ووجه باهت اللون تسير على غير هدى إلى وجهة غير معلومة، ويُظهِرها الفيلم تخوض صراعًا وسط عالم الرجال، وفي النهاية تقرر مواجهة الموت وكأنها بذلك تتحرر من كونها امرأة.

كما ظهرت المخرجة مانيا أكبري حليقة الرأس أيضًا في فيلمها “10+4″، لتُصوِّر تجربتها الواقعية مع مرض السرطان.أما فيلم “الحجر الصحي” (قرنطينه) فقد أثار الكثير من الجدل الذي استدعى تدخل مجالس الفتوى والمرجعيات الدينية، إذ يروي قصة شاب غني يتعرض لحادث مروري مع سيارة تقودها فتاة، ويؤدي ذلك إلى أن يقعا في الحب، لكن زواجهما يلقى معارضة من الأهل، وتُصاب الفتاة بمرض السرطان، وتتلقى علاجًا كيمائيًّا، وهنا يُظهِرها الفيلم حليقة الرأس مكشوفة العنق، مثل باقي مريضات السرطان معها. وقد أثارت تلك المشاهد الكثير من الجدل، وهو ما دفع إلى استفتاء رجال الدين في ذلك، وكان من أبرزهم آية الله علي السيستاني وآية الله مكارم الشيرازي، وهما من أشهر المراجع الدينية لدى الشيعة، حيث أفتيا بحرمة ذلك حتى وإن كان الرأس حليقًا، وقال الشيرازي في نص فتواه إن الحجاب لا يتعلق بالشعر فقط بل يشمل الرأس أيضًا، وإن المستثنى الوحيد هو الوجه واليدان(39).

وقد سُحِب فيلم “دورية الإرشاد” للمخرج سعيد سهيلي من دور العرض الإيرانية عام 2012 وسط ردود فعل متباينة. وكان الفيلم قد عُرض في دور السينما بعد حذف الكثير من مشاهده(40)، وتناول قضية “شرطة الإرشاد” التي تجوب الشوارع “لمواجهة” ما يُطلق عليه “الحجاب السيئ” و”المظاهر غير الإسلامية في لباس الفتيات والشبان”. وراوحت ردود الفعل تجاه الفيلم بين مؤيد يدافع عنه ويُدين وقف عرضه، وبين معارض يعتبره فيلمًا يتناقض مع القيم الاجتماعية كما وصفه رئيس مجلس الشورى السابق النائب حداد عادل.

ورغم منعه، فإن الفيلم ومقاطعه المحذوفة، وجد طريقه إلى المشاهد الإيراني عبر أقراص “دي.في.دي” انتشرت في أماكن عدة من طهران. ولعل التغيير الذي طال اسم الفيلم يؤشر على حالة التجاذب في هذه القضية بأبعادها السياسية والاجتماعية، فبعدما كان الاسم “گشت إرشاد” (دورية الإرشاد) أُضيفت علامتا استفهام وتعجب للاسم ليصبح “گشت إرشاد؟!”، في محاولة للتخفيف من حدة تداعيات ومدلولات الاسم الذي صار كثير التداول في المجتمع الإيراني(41). ولعل ما يواجهه أهل السينما من تضييق ورقابة، يُشبه إلى حد بعيد وقائع ما يجري في الشارع من رفض “لفرض الأخلاق على الناس”. ولعل النقد العالي اجتماعيًّا وسياسيًّا الذي حمله المشهد الأخير في الفيلم كان سببًا لمنعه، فبعد خروجهم من السجن يدور حوار حول الشكل الذي ستكون عليه حياة السجناء في المجتمع: هل سيكونون ذئابًا أم حملانًا؟ ليأتي الجواب على لسان أحدهم: “الظروف هي التي ستجعل منا ذئابًا أو حميرًا أو حملانًا، لكن في كل الأحوال إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب”(42).

وتنظر المخرجة رخشان بني اعتماد إلى هذه القضية من منظور أوسع، فالرقابة الحقيقية تتمثل في أن المخرج لا يستطيع انتقاد الأوضاع الاجتماعية والسياسية للمجتمع. وتعتبر رخشان أن مشكلة الرقابة “أعمق وأوسع من موضوع حجاب المرأة في السينما، وهو واحد من الموضوعات التي تتعلق بالرقابة وتطال قائمة كبيرة ترى أنها ضد الحرية”، مشيرة إلى أن الرقابة لا تتعلق فقط بموضوع اللباس الضيق للنساء، أو عدم التلامس في الأفلام، وحصرُها في ذلك يحجِّم من خطرها(43).

وترى الأكاديمية نغمه ثميني أن المرأة الإيرانية ليست ظاهرة منفصلة عن السينما الإيرانية بشكل عام، لكن تصوير المرأة يُجانب الواقعية إلى حد ما فيما يتعلق بموضوع الحجاب، فعندما تظهر امرأة في المنزل بكامل حجابها فهذا مناقض للواقعية، لأن صورتها ينبغي ألا تختلف كثيرًا عن الواقع. ومع ذلك، حاولت المخرجات إيجاد حلٍّ، ففي فيلم “ثلاث نساء”، تظهر المرأة دائمًا خارج البيت حيث يكون حجابها واقعيًّا. أما في فيلم “سيدة إبريل”، فكلما أرادت الممثلة خلع حجابها، تبتعد عنها الكاميرا فلا تظهر في الشاشة(44).

واضطرت المخرجة پوران درخشنده أن تُصوِّر فيلمها “عشق بلا حدود” في الخارج لتتغلب على مشكلة الحجاب وتعطي واقعية للقصة، حيث إن البطلة امرأة غربية، وهو ما جعل كلفة الفيلم باهظة(45). وحتى في الأفلام التي تناولت الحرب، لم يستطع المخرجون تصوير الأم وهي تحتضن ابنها الذاهب إلى الجبهة، وهو ما أفقد هذه المشاهد زخمها وواقعيتها. وكذلك الحال في المشاهد التي تصور المرأة بحجابها داخل المنزل مع الأب أو الزوج والأبناء(46)، وهو ما دفع بعض المخرجين إلى حذف مشاهد النساء بصورة كبيرة، أو التركيز على نساء في القرى يرتدين نفس اللباس داخل البيت وخارجه(47).

وتعتقد المخرجة تهمينه ميلاني -وهي من أكثر المخرجات إثارة للجدل في إيران- أن الحجاب أول قيد يواجه المرأة في السينما(48)، وترى أن تصوير المرأة وهي نائمة بحجابها أمر يثير السخرية، وأن هذه القيود تحول دون تناول الكثير من القضايا الاجتماعية ومعالجتها بصورة سينمائية مقنعة. وتشاركها الرأي في ذلك مخرجة فيلم “سجن النساء” منيجه حكمت(49).

وكانت المشكلة الأكبر لصانعي الأفلام هي تصوير النساء في المنزل مع الحجاب، وقد ناقشتها مجلة دورية متخصصة في السينما مع عدد من علماء الدين، مثل: محسن كديور، ومحمد تقي فاضل ميبدي، وآية الله يوسف صانعي، الذين قالوا بجواز “ظهور المرأة الإيرانية بدون حجاب في السينما”(50). وأصدر آية الله موسوي بجنوردي فتوى مفادها أن المخرج يمكنه استخدام الشعر المستعار “الباروكة”(51). وحاول بعض المخرجين حلَّ المشكلة باستخدام المكياج و”الباروكة” والقبعة، لكن هذه الإجراءات لم تنجح ولم ترض عنها “وزارة الإرشاد” صاحبة الكلمة في إجازة الأفلام وعرضها.

وفي تحليل لمحتوى الأفلام التي قدمتها مخرجات إيرانيات بين عامي 1980 و2008 (52)، شمل دراسة المضامين النسوية في أفلام خمس من أهم المخرجات الإيرانيات وهن: بوران درخشنده، ورخشان بني اعتماد، وتهمینة میلاني، ومنیجه حکمت، ومانیا أکبري، إذ تم تحليل مضمون 784 مشهدًا في عشرة أفلام بمعدل فيلمين لكل مخرجة، وكان لباس النساء أحد الموضوعات التي جرى تناولها؛ أظهرت النتائج أن 64% من الشخصيات النسائية في الأفلام لبسن “المانتو” (لباس على شكل جاكيت)، و19% ارتدن “الشادور”، بينما لبست 11% “المانتو” و”الشادور” معًا، وكانت 5% غير محجبات و1% غير ذلك.

وظهرت 68% من النساء المتعلمات في الأفلام وهن يرتدين “المانتو”، بينما ظهرت 11% بالشادور، و7% بلباس آخر، وكان ملاحظًا أن الشخصية الرئيسية في هذه الأفلام من النساء اللواتي يرتدين “المانتو” لا “الشادور”. وقد سعت المخرجة بني اعتماد إلى إيجاد نوع من المساواة في لباس الشخصيات التي تصورها، ورأت أن النساء المتدينات وكذلك العلمانيات جزء أصيل من المجتمع الإيراني ويجب إبرازه بشكل إيجابي(53). أما المخرجة منيجه حكمت فاختارت نوعًا من المفاضلة، فمديرة السجن التي ترتدي “الشادور” في فيلم “سجن النساء” قاسية لا ترحم، بينما تبدو مساعدتها التي ترتدي “المانتو” عطوفة تُقدِّم الهدايا للسجينات وتعتذر منهم عن سوء المعاملة.

وفي الغالب ترتدي بطلات الأفلام ملابس حديثة ويكشفن جزءًا من الشعر المغطى بشال ملون، لكنهن في المناسبات الدينية يظهرن بالشادور، ويرى الناقد حميد رضا صدر أن المخرجات الإيرانيات لا يفضلن تصوير شابة ترتدي “الشادور”، ويقدمن الشابة الإيرانية بطريقة أكثر حداثة، أو بعبارة أخرى “بالحجاب السيئ”. وكانت السينما سببًا في ظهور هذا النمط من الملابس أو هذا الشكل من الحجاب، ولكنها -بدورها- تأثرت بالتحول الذي شهده المجتمع تجاه اللباس، خاصة بين فئة الشباب(54).

6. الحجاب.. من أحمدي نجاد إلى روحاني: الإمعان في الإجبار وتصاعد الرفض

تصلح فترة رئاسة أحمدي نجاد بعهدتيها (2005-2013) لبحث كثير من القضايا المفصلية المتعلقة بالمرأة الإيرانية، مثل قضية الحجاب والاختلاط والحريات الشخصية والمشاركة السياسية وغيرها. ومع أن هذه القضايا رافقت الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها بل وسبقتها، فإنها أخذت حيزًا كبيرًا من النقاش العام في فترة أحمدي نجاد، جعلها تبرز كمشكلات وأسئلة صعبة وتحديات(55).

خلال حملة أحمدي نجاد الانتخابية للدورة الرئاسية التاسعة عام 2005، وفي بداية توليه الرئاسة، صدرت عنه وعود باحترام حياة الناس الخاصة، وعدم السماح للأمن -بأي وجه من الوجوه- بالتدخل في لباس الشباب ذكورًا وإناثًا(56)، بل حاول أن يُحدِث تغييرًا بشأن السماح للنساء بدخول الملاعب، وتنشيط الرياضة النسوية، الأمر الذي قُوبِل بهجوم شديد من رجال الدين، وفي مقدمتهم إمام جمعة مشهد آية الله علم الهدى، وعدد من النواب(57). كما نقلت الصحف عن عضو مجلس شورى مجتمع رجال الدين رضا أكرمي، قوله: “لن أجيز تحت أيِّ وضعٍ دخول النساء إلى الملاعب حتى لو جرت مقاطعة كرة القدم الإيرانية عالميًّا”. وأورد أكرمي للدفاع عن وجهة نظره مثالًا قال فيه: “عندما يُعطي الغرب الراهبات الإذن بالزواج، سنعطي نساءنا الإذن بدخول الملاعب، فالإسلام يحرم مشاهدة الرجال للنساء وقد كُشفت عوراتهن”(58). وقد أصدر نجاد في بداية رئاسته قرارًا ببناء أماكن خاصة في الملاعب لتمكين النساء من الحضور، لكنه عاد وسحب القرار بفعل ضغط المراجع الدينية. ولوحظ أن مخالفة بعض المرجعيات تتعاظم(59) كلما اتسع حضور النساء الإيرانيات على صعيد الرياضة الدولية، وإن كن يشاركن بالحجاب.

وبعد مضي عامين على الدورة الرئاسية الأولى، كان أحمدي نجاد يضع نفسه في مواجهة جديدة مع النساء ومؤسسات المجتمع المدني، وذلك عندما بدأت الشرطة بتنفيذ “حملة التصدي للحجاب السيئ”، فنشرت دوريات في 23 نقطة داخل مدينة طهران، تضم عناصر من الشرطة النسائية كُلِّفت بالتعامل مع الفتيات اللواتي يُصنَّف لباسهن بأنه مُخِلٌّ بمعايير “الحجاب الإسلامي”(60). وأثارت هذه الحملة جدلا واسعًا وانقسامًا في الرأي بين مؤيد ومعارض، فانحاز خطباء الجمعة في عدد من مساجد العاصمة إلى إجراءات الأمن، بينما عبَّر الإصلاحيون في مقالات نشرتها صحفهم عن معارضتهم الصريحة لتصدي قوات الشرطة لهذا الموضوع.

وكانت النساء الإيرانيات يبدين مقاومة إزاء الشرطة النسوية وهي “تسحبهن” من الشارع واحدة تلو الأخرى(61)، ولم تكن الشرطيات في كثير من الأحيان يشعرن بأدنى حرج من هذه المواجهة، وقلن: “إننا نُمارس صلاحياتنا التي منحنا إياها قانون المجازاة الإسلامي، فالمادة (638) تنص صراحة على مسؤوليتنا في مواجهة هذه المخالفات“(62). ويضفن “نفتح ملفًّا للمخالِفة يتضمن معلومات عنها مع صورتها، وشرحًا للتجاوز الذي حدث، ثم نرسل الملف وصاحبته إلى القضاء، وهناك غرامة مالية بحق مَن لها سابقة في المخالفة”(63).

ومع تواصل الحملة، أعربت النساء عن خيبة أملهن في الرئيس أحمدي نجاد الذي حاول تسجيل موقف معارض لخطة الأمن الاجتماعي التي تضم “مواجهة الحجاب السيئ”، لكن قائد الأمن أعلن أنها جاءت بناء على توصية من أحمدي نجاد شخصيًّا، كما أن صحيفة “كيهان” كانت له بالمرصاد(64).

وتوقفت الحملة إبان الانتخابات الرئاسية العاشرة في يونيو/حزيران 2009، إلا أن دوريات الشرطة عادت لتطبقها بعد أشهر على انتهاء الانتخابات، واستمرت بوتيرة وأنماط مختلفة في عهد حسن روحاني. وكانت قوات الأمن تقوم أحيانًا بتصوير النساء اللواتي يُعتبرن غير محجبات بشكل كامل، أو اللواتي كن يلبس “الحجاب السيئ”، كي تتمكن من توقيفهن وإدانتهن أمام المحكمة. كما كانت الدوريات المتحركة تسأل الشاب والشابة الموجودين معًا في الشارع أو داخل السيارة إن كانا متزوجين، وعن طبيعة العلاقة التي تبرر وجودهما معًا. وترافق ذلك مع تشديد مراقبة اللباس على أبواب الجامعات، إذ فُرضت ألوان لا تتعدى الأسود أو البني أو الرمادي، كما حُظِر على الشبان ارتداء القمصان ذات الأكمام القصيرة أو الضيقة.

وكان ديوان الدولة العالي قد رفض عام 2009 شكوى تقدَّم بها 40 محاميًا ضد قوات الأمن العام بسبب تنفيذ الحملة التي اعتبروها غير قانونية، وأن على قوات الأمن ألا تتجاوز الصلاحيات الممنوحة لها. وأيدت السلطة القضائية ذلك، ورأت أن الأمن يملك الحق القانوني لتذكير النساء اللاتي يرتدين “الحجاب السيئ” بضرورة “إصلاحه”، لكنه لا يملك الحق في الاعتقال، فالمادة (638) من قانون “المجازاة الإسلامي” تنص على أن المرأة التي لا تلتزم قواعد الحجاب أمام العامة تعاقب بالحبس 10 أيام، أو بغرامة تتراوح قيمتها ما بين 50 و500 دولار(65).

وأوقعت الحملة أحمدي نجاد في حرج بالغ أمام النساء في إيران، ووجد نفسه مجبرًا على تأكيد رفضه الشديد لعمليات مراقبة النساء والشابات غير المتزوجات وتوقيفهن بحجة “إساءة ارتداء الحجاب”، واعتبرها مهينة وغير قانونية(66). ومع أن انتقاداته هذه قُوبِلت بعاصفة غاضبة من رجال دين وبرلمانيين اعتبروها مخالفة للشرع ولدستور الجمهورية الإسلامية(67)، فإنها عكست في الوقت ذاته قلقًا لدى أحمدي نجاد إزاء ما يمكن أن تتركه الحملة من تأثيرات سلبية على مكانته السياسية ومكانة تياره داخل المجتمع الإيراني، لكن من دون أن يدحض ذلك اتهامه بازدواجية خطابه تجاه المرأة، فالفرق واضح بين ما صرح به وما جرى تنفيذه على أرض الواقع، وكذلك من دون أن يسهم في تبرئته، خصوصًا أن قيادة الشرطة أكدت غير مرة موافقة الحكومة على إجراءات الحملة.

7. انتفاضة ضد ملحق “خاتون” لمساسه بحرمة “الشادور الأسود”

في أغسطس/آب 2011 أصدرت صحيفة “إيران” اليومية ملحقًا خاصًّا من 258 صفحة أطلقت عليه “خاتون 1”(68)، وتناول موضوع الحجاب بأبعاده المختلفة مع محاولة الترويج لطراز من الحجاب بألوان وتصميمات مختلفة. لكن مقابلة مع مهدي كلهر المستشار السابق لأحمدي نجاد، أثارت غضبًا عارمًا في إيران مما أدى إلى جمع أعداد الملحق من السوق وحظر توزيعه. فقد اعتبر كلهر “الشادور الأسود” تقليدًا لملابس النساء في “النوادي الليلية الأوروبية”، ورمزًا للتكبُّر أُقْحِم على لباس الإيرانيات في عهد ناصر الدين شاه الذي جلب ذلك إلى إيران بعد زياراته إلى أوروبا، حيث شاهد النساء في النوادي الليلية يلبسن الأسود، وقال: “إن الشادور الأسود أسوأ حجاب للمرأة”(69). كما تضمن الملحق نقدًا للطريقة التي تتعامل بها الشرطة مع النساء في الشوارع بسبب الحجاب.

وجاءت موجة الغضب هذه على شكل بيانات وتصريحات ومتابعات صدرت عن رجال دين ومسؤولين ونواب وصحف ومواقع، إضافة إلى مؤسسة البسيج والحرس الثوري، حيث اعتُبرت تلك التصريحات مساسًا لا يمكن التغاضي عنه بالحجاب “الأعلى منزلة” في إيران، وهو “الشادور الأسود”(70). واتُّهِمَت صحيفة “إيران” بالترويج للأفكار المنحرفة، وطالب 192 نائبًا بمعاقبتها على نشر الملحق(71). كما اتَّهَمها المدعي العام في طهران “بالمساس بالشادور وخطة حماية الحجاب والعفاف” و”بالترويج للفجور” و”إهانة الآداب العامة والأخلاق(72).

8. مع روحاني: الاحتجاج بنزع الحجاب

لم تنته إشكالية الحجاب الإجباري ودوريات المراقبة بانتهاء رئاسة أحمدي نجاد، بل تواصلت مع حسن روحاني، وقوبلت هذه الدوريات باحتجاج نسائي تمثَّل في نزع النساء حجابهن في أماكن عامة، متحدياتٍ رجال الشرطة. ووفقًا لمركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، فإن المعارضة الشعبية للحجاب الإجباري والتدخل الحكومي في هذا المجال تتصاعد. وتشير بعض الاستطلاعات إلى أن نسبة المعارضة للحجاب الإجباري في إيران تصل إلى 80%. وفي فبراير/شباط 2018، أصدر المركز تقريرًا مفصلًا عن ندوة متخصصة عقدها عام 2014، بحثت “مشكلات السياسات المطبقة في مجال الحجاب بإيران”(73). وورد في التقرير المؤلَّف من 20 صفحة أن “ظاهرة الحجاب السيئ وما بعدها، تعتبر واحدة من القضايا الثقافية والاجتماعية الأكثر إثارة للجدل” التي تواجهها الجمهورية الإسلامية.

وشمل التقرير خلاصة دراسة استقصائية أجراها علي أسدي عام 1975، أي قبل الثورة الإسلامية (1979) بأربع سنوات فقط. وأفادت نتائج الدراسة بأن ثلاثة أرباع السكان (75%) يفضل فيها الأزواج أن تكون الزوجة محجبة، وأن 7% يرغبون في زوجة بلا حجاب. لكن نتائج استطلاع للرأي أجري عام 2014 أظهرت أن 50% من المستطلعة آراؤهم يرون أن الحجاب مسألة شخصية يجب ألا تتدخل الحكومة فيها. كما تشير إلى ارتفاع نسبة المعارضين للحجاب الإجباري وتدخل الدولة فيه بـ15% عن العام 2006، عقب سنة من تولي أحمدي نجاد، إذ بلغت نسبتهم حينها 34.8%، مقابل 55.5% للمؤيدين.

ووفقًا لآخر إحصائية رسمية نشرها مركز البحوث التابع للبرلمان الإيراني في يوليو/تموز 2018، فإن 60-70% من الإيرانيات يرتدين “الحجاب العرفي”، أي أن أكثرهن يُظهِرن جزءًا من شعر الرأس أو لباسهن غير فضفاض، في حين يُصنَّف حجاب 10-15% ممن يرتدين الحجاب العرفي على أنه “سيئ غير مقبول”، ويعتبر خادشًا للحياء العام، وفيه تكشف المرأة جزءًا كبيرًا من شعرها، وتلبس ملابس ضيقة أو غير محتشمة، وتضع مساحيق تجميل بشكل لافت(74). ويؤكد المركز في تقريره أن 30-40% من الإيرانيات يلتزمن الحجاب الشرعي الذي يعتبر أفضل درجاته عند علماء الشيعة في إيران “الشادور”.

حاليًّا، تواجه النساء في إيران أحكامًا طويلة بالسجن بسبب احتجاجهن على الحجاب الإجباري بنزع الخمار، وهو ما أثار موجة ناقدة حتى داخل التيار الأصولي نفسه. ففي مناظرة تلفزيونية، انتقد المدير السابق لصحيفة “كيهان” مهدي نصيري “حملة قمع النساء”، وقال: إن الإجراءات الحكومية كانت سببًا في إضعاف الحجاب. وأوضح نصيري في حديثه لبرنامج “زاوية” الذي بثته القناة الرابعة بالتلفزيون الوطني الإيراني يوم 16 سبتمبر/أيلول 2020، أنه وفقًا لإحصاءات غير منشورة لوزارة الثقافة والإرشاد، فإن 70% من المجتمع الإيراني يعارضون الحجاب الإجباري، منتقدًا عدم استخدام “مؤسسة محايدة” لإجراء استطلاع للرأي حول الحجاب. وخلص في حديثه إلى أن إيران بعد 40 عامًا من انتصار الثورة، تواجه ضعفًا في الحجاب “وميلًا إلى عدم ارتدائه”(75).

والنظر إلى قضية الحجاب لا يجري بمعزل عن القضية الأخرى الحساسة، وهي قضية الاختلاط التي عاودت الظهور بكثافة مع الفترة الرئاسية الثانية لأحمدي نجاد، لتكشف وجود بون شائع بين ما يفرضه الواقع الاجتماعي وما تُملِيه ضغوط رجال الدين والأسس التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية. فعبارات مثل “إلقاء اللحمة أمام القط”(76) لوصف الاختلاط والعلاقة بين الجنسين أغضبت الناشطات الإيرانيات، ذلك أن ثنائية “اللحمة” و”القط” لا تليق بالمرأة والرجل على حد سواء، وقد جاء غياب الاستحسان هذا مصحوبًا بقلق من جانب النساء يرافقه قلق من نوع آخر من رجال الدين، ومنهم حجة الإسلام فضل علي صاحب هذه العبارة المحتجة على الاختلاط في الجامعات والمؤسسات، باعتباره (أي الاختلاط) المسؤول عن كثير من المشكلات التي يواجهها المجتمع الإيراني. وهذا مبحث آخر لا يقل تعقيدًا عن مسألة الحجاب.

خاتمة

تدخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقدها الخامس وهي تنوء بحمل قضايا وإشكاليات فرضتها السياسة والتوجهات التي حكمت العقد الأول من عمرها، عندما كانت الرغبة عارمة لأسلمة كل مناحي الحياة، ومن ضمنها لباس المرأة، مما أدخل الحجاب في بؤرة الخطاب السياسي للجمهورية ونقله من دائرة الفقه والثقافة إلى دائرة السياسة والقانون. ومع التغيير الذي طال مجموعة القيم لدى المجتمع الإيراني وقناعاته، وهو تغيير كبير تكشف عنه دراسات كثيرة، يتعاظم مأزق الإجبار في مثل قضية الحجاب، مما يعزز وجاهة الدعوة إلى إعادة التفكير بشأنها، وهو ما بات يطرحه الكثير من رجال الدين الشيعة داخل إيران وخارجها، ومن أبرزهم آية الله محمد إسحاق الفياض أحد أبرز تلامذة آية الله الخوئي، الذي يرى أن التقريع والإجبار في موضوع الحجاب لا طائل منه(77).

ورغم أن نتائج الدراسات -ومنها دراسات أجرتها جامعات- تشير إلى أن توجهات المجتمع ما زالت تعتبر الحجاب أمرًا مهمًّا، فإنها تكشف أيضًا عن نسبة مرتفعة -تزداد من سنة لأخرى- تعارض مسألة الحجاب الإجباري(78).  إن الحرص على منح مظهر إسلامي للمجتمع -ومن ذلك حجاب المرأة- بقوانين جزائية تتضمن الحبس والجلد والغرامة، وضع إيران في مأزق، إذ تتصاعد الأصوات داخل بنية السلطة نفسها بضرورة البحث عن حلٍّ لهذا المأزق قد يكمن في إجراء استفتاء عام على هذه القضية.

فاطمة صمادي

مركز الجزيرة