منذ بداية اندلاع الاحتجاجات الحالية في إيران، تنديداً بوفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا اميني، في 16 سبتمبر الفائت (2022)، حيث اتهمت عناصر من شرطة الأخلاق بالاعتداء عليها، اتجه النظام الإيراني إلى استخدام آليات عديدة في التعامل معها، من أجل احتواءها، على غرار ما فعل خلال الاحتجاجات السابقة، وفي مقدمتها احتجاجات عامى 2017 و2019.
فإلى جانب التعامل الأمني مع المحتجين، وفرض قيود شديدة على شبكة الإنترنت، كان لافتاً أن النظام سمح بتنظيم مظاهرات مؤيدة له ومنددة بالاحتجاجات لتأكيد أن الشارع الإيراني ليس ضده وأن هناك قاعدة شعبية داعمة له. ويمكن القول إن الصورة الأساسية التي التقطت لتلك المظاهرات تعكس بشكل واضح السردية الرسمية للنظام إزاء هذه الاحتجاجات.
غياب رئيسي
أول انطباع تمنحه الصورة للمدقق فيها أو المتابع للمظاهرات في إيران، هو غياب صورة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، بشكل شبه كامل، حيث لم تظهر إلا مرة واحدة في المظاهرات، مقابل إبراز صور مؤسس نظام الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني، والمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، والقائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني. وهنا، فإن ذلك يطرح دلالتين أساسيتين:
الأولى، أن النظام في إيران لا يفرض وزناً حقيقياً لموقع رئيس الجمهورية في تراتبيته، بدليل أنه يمنح الأولوية للمرشد الأعلى للجمهورية، وهذا متوقع ومنطقي، إلى جانب قائد عسكري، يفترض نظرياً أنه يأتي في مرتبة أقل من مرتبة الرئيس، الذي يعتبر الرجل الثاني في النظام، بصرف النظر عن مستوى التأثير والنفوذ الذي كان يمتلكه هذا القائد العسكري. واللافت هنا أن ذلك يأتي في الوقت الذي تبدو فيه الحكومة هي المتهم الأول في الأزمة الحالية، باعتبار أن “شرطة الأخلاق” تابعة لها.
والثانية، أن النظام الحاكم يدرك أن الاحتجاجات لم تندلع للاعتراض على الإجراءات التي تتخذها الحكومة فحسب، وإنما على السياسات العليا التي يتبناها النظام نفسه. فشعار “مرگ بر ديكتاتور” (الموت للديكتاتور)، ليس مقصوداً به الرئيس رئيسي، وإنما المرشد خامنئي في المقام الأول.
وهنا، فإن المقاربة الأساسية التي كان يعتمد عليها النظام باستمرار باتت تواجه إشكالية، حيث كان دائماً يسعى إلى تحميل الحكومة المسئولية عن فشل الإجراءات التي تتخذها في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المختلفة، على أن تبقى القيادة العليا بعيدة عن الانتقادات. بل إن النظام أوعز حتى إلى وسائل الإعلام القريبة منه بشن حملة قوية ضد حكومة الرئيس السابق حسن روحاني، لتحميلها المسئولية عن ما آل إليه الاتفاق النووي، بعد الضربات القوية التي تعرض لها نتيجة الانسحاب الأمريكي منه في 8 مايو 2018، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، رغم أن حكومة روحاني لم تصل إلى الاتفاق إلا بعد حصولها على ضوء أخضر من القيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية.
ظهور سليماني
كان ظهور صورة قاسم سليماني القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري- الذي قتل برفقة نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في 3 يناير 2020 في عملية عسكرية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق- بمثابة إشارة لها دلالة في المظاهرات التي نظمها الموالون للنظام.
إذ أن ذلك يوحي بأن النظام سعى عبر ذلك إلى إضفاء وجاهة خاصة على السردية التي يتبناها إزاء الاحتجاجات، وهى أنها تهدف في المقام الأول إلى تقويض دعائمه، وعرقلة قدرته على مواصلة تدخلاته الإقليمية، لا سيما في الدول التي يقدم فيها دعماً عسكرياً واقتصادياً لحلفائه من المليشيات المسلحة على غرار سوريا والعراق ولبنان واليمن.
وقد كان لافتاً في السياق نفسه، أن بعض حلفاء إيران، على غرار حزب الله اللبناني، سعوا إلى تبني هذه المقاربة نفسها، حيث أشار الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في أول أكتوبر الجاري، إلى أن “إيران القوية والمقتدرة هي موضع استهداف منذ اليوم الأول ولذلك الجميع يراهن على التحرك من الداخل”، مضيفاً أن “الجمهورية الإسلامية هي أقوى وأرسخ وأشجع من أي زمن مضى”. وربما يكون ذلك، في قسم منه، رداً على اتجاه أطراف داخلية في لبنان إلى إبداء دعمها للمحتجين الإيرانيين في مواجهة السلطات، على نحو بدا جلياً، بشكل لافت، خلال جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، التي عقدت في 29 سبتمبر الفائت، والتي لم تسفر عن انتخاب رئيس جديد، حيث توزعت الأصوات بين بعض المرشحين، إلا أنه كان لافتاً أنه كان هناك صوت لمهسا اميني.
رسائل موجهة للغرب
كان لافتاً أن منظمي المظاهرات الموالية للنظام لم يكتفوا بكتابة الشعارات المكتوبة باللغة الفارسية، بل تعمدوا كتابتها أيضاً باللغة الإنجليزية. وهنا، فإن الرسالة ليست موجهة فقط إلى الداخل الإيراني، وإنما موجهة أيضاً إلى الخارج، لا سيما الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد كان الشعار الأبرز في هذا السياق هو: “نحن مطيعون أمر قائدنا” (مطيع امر رهبريم- We are Obedient to our leader )، في إشارة إلى الالتزام بما يقتضيه قانون “الحجاب والعفة” الذي وقعه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في 15 أغسطس الماضي، وأثار جدلاً داخلياً حاداً، قبل أن يكون أحد محاور الاحتجاجات الأخيرة، باعتبار أن احتجاز مهسا اميني كان في الأساس بسبب اتهامها بعدم ارتداء الحجاب بشكل مناسب.
كتابة الشعار بالفارسية والإنجليزية في آن معاً يوحي بأن النظام يسعى إلى توجيه رسالتين إحداهما إلى الداخل والأخرى إلى الخارج. والرسالتان تتضمنان معنى واحداً، وهو أن هناك جمهوراً مؤيداً للنظام، وأن هذا الجمهور يستطيع أن يدعم النظام أو يمثل ظهيراً شعبياً له عند اللزوم.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل عن الرؤية نفسها التي يتبناها النظام، وحتى حلفاءه الإقليميون، والتي تقوم على أن الأجندة التي تسعى أطراف خارجية إلى تحقيقها تعتمد في الأساس على إحداث تغيير من الداخل. وانطلاقاً من ذلك، فإن النظام يريد أن يؤكد أن هذا التغيير من الداخل يواجه تحديات لا تبدو هينة، يتمثل أبرزها في أن قاعدته الشعبية التي يدعي أنها واسعة سوف تحول دون ذلك.
هنا تكمن الدلالة الأهم، وهى أن النظام في هذه اللحظة يستخدم جانبه الثيوقراطي لعلاج ما أصابه من شرخ بسبب استمرار الاحتجاجات وتراكم الأزمات مع الشارع، رغم أن هذا الجانب نفسه يواجه ضغوطاً لا تبدو هينة بدت جلية في تعمد المحتجين المس بهيبة المرشد وموقعه داخل هيراركية النظام.
وفي هذا السياق، فإن النظام يسعى إلى استغلال شبكة المقلدين الواسعة لـ”آية الله” خامنئي، داخل وخارج إيران، من أجل تأمين قاعدة شعبية يعتد بها في مواجهة الشارع المحتج، وبالتالي المساعدة في احتواء الاحتجاجات الحالية، حتى تمر دون أن يضطر إلى دفع أثمان باهظة، ربما تكون مؤجلة حتى إشعار آخر.
مركز الا