يدفع المدنيون عادة الأثمان الباهظة ويكون نصيبهم هو الأفدح من عواقب الحروب، وما شهدته العاصمة كييف ومدن وبلدات أوكرانية أخرى من أهوال القصف الروسي مؤخراً هو المثال الأحدث عهداً على حال متكررة في استهداف المدنيين الأبرياء، تستوجب الإدانة والاستنكار بصرف النظر عن موازين الحق والباطل في الصراعات المسلحة. ولكن من المعتاد أيضاً أن يجري الكيل بأكثر من مكيال واحد في تمييز الضحايا، بما ينتهي إلى تضخيم الاستنكار في موقع، والسكوت أو حتى التواطؤ إزاء الفظائع ذاتها أو أفظع منها في مواقع أخرى.
ومن واشنطن ولندن وباريس وبون وبروكسل ونيويورك تبارى زعماء الدول الغربية وقادة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي والأمم المتحدة في إدانة عمليات القصف الروسية الأخيرة، فلم يتردد الرئيس الأمريكي في توصيفها بالوحشية المطلقة وحذا حذوه وزير خارجيته فتباكى على «قضية أخلاقية كبرى» خلف حرب روسيا في أوكرانيا، وحثت رئيسة وزراء بريطانيا على «عدم التراجع قيد أنملة» في مساعدة كييف على الانتصار، وهكذا فعل الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني، كما حرص اللقاء الافتراضي الطارئ الذي عقده قادة مجموعة السبع على الاستماع إلى الرئيس الأوكراني وطمأنته إلى استمرار المجموعة في تزويد بلاده بالأسلحة والعتاد وأسباب الظفر.
هذه المواقف مفهومة ومن الطبيعي أن تصدر عن دول ومنظمات معنية بالآثار الجيو – سياسية والعسكرية والاقتصادية المترتبة على استمرار الحرب في أوكرانيا، وخاصة أيضاً ما ينشأ بسببها من انعكاسات على سوق النفط والطاقة والاستثمار والبورصات، ولأنها في نهاية المطاف تنذر بعواقب وخيمة لجهة الانجرار إلى مواجهات أطلسية ـ روسية واحتمالات استخدام وسائط دمار شامل لا يستثنى منها السلاح النووي. غير مفهوم في المقابل، فضلاً عن أنه مدان أخلاقياً وحقوقياً، أن العواصم ذاتها التي تتبارى اليوم في شجب القصف الروسي كانت قد سكتت عن عمليات قصف أكثر وحشية وعنفاً وتدميراً نفذتها دولة الاحتلال الإسرائيلي مراراً ضد قطاع غزة، وتابعها العالم بأسره في بث حي عبر شاشات الفضائيات، وأسفرت عن استشهاد الآلاف في صفوف المدنيين من شيوخ ونساء وأطفال.
صحيح أن الواقعية السياسية تقتضي تفهم اختلال المقارنة بين مكانة كييف بالمقارنة مع غزة في حسابات الغرب والأطلسي ومجموعة السبع أو حتى الاتحاد الأوروبي، وتفترض الأخذ بعين الاعتبار موقع «الدلال» الخاص الذي تمتعت وتتمتع به دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ وعد بلفور والنكبة ومختلف محطات الصراع العربي ـ الإسرائيلي ومسارات القضية الفلسطينية وصولاً إلى الحاضر الراهن. ولكن الصحيح أيضاً يستوجب انتظار الحد الأدنى من تطبيق المعايير الأخلاقية التي يزعم الغرب التشبث بها، خاصة إزاء تلك الانتهاكات التي تمسّ سلسلة قيم ومبادئ يرفع الغرب رايتها ويعلن إعلاء شأنها والدفاع عنها.
وعلى مأساوية آثارها وما تخلفه من آلام إنسانية، فإن تصعيد القصف الروسي الأخير على أهداف مدنية في أوكرانيا يظل مناسبة مواتية لافتضاح صفحات جديدة ومتجددة من نفاق عدد كبير من الديمقراطيات الغربية، حيث يجري كيل العذاب البشري المتماثل بعشرات المكاييل المتنافرة المتناقضة.
القدس العربي