الصراع المسلح الذي بدأ بين فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا من جهة، وفصيل «الحمزات» من جهة ثانية، على أرضية اغتيال الناشط الإعلامي محمد عبد اللطيف (أبو غنوم) وأدى إلى اجتياح قوات هيئة تحرير الشام لمنطقة عفرين، حظي بتغطية إعلامية واسعة، لكن تلك التغطيات احتارت في تفسير ألغاز هذا الصراع، بالنظر إلى موقف تركيا الملتبس منه. فهي الدولة التي تسيطر على مناطق الشمال عسكرياً، من إدلب وصولاً إلى رأس العين في الشرق، بتواجدها المباشر ومن خلال حلفائها من الفصائل المسلحة السورية. كما تعمل بعض المؤسسات المدنية التركية على توفير خدمات البريد والكهرباء والتعليم والصحة، كما يتم التداول غالباً بالليرة التركية، وتبني عدداً من المناطق السكنية بهدف إيواء النازحين. ويتلقى مقاتلو «الجيش الوطني» الذي انشأته تركيا بتجميع فصائل «الجيش الحر» سابقاً، رواتبهم من ظهيرهم التركي.
في ظل هذه المعطيات يصبح بديهياً التساؤل بشأن سبب صمت أنقرة «البليغ» حول ما يجري تحت أنظارها، وما الذي دفع بها لغض النظر عن اجتياح مقاتلي الجولاني لمناطق سيطرتها، ووصولهم إلى مدينة عفرين أولاً، ومنطقة كفر جنة القريبة من أعزاز ثانياً. والأكثر إثارة للبلبلة هو انسحاب قوات الجولاني من المناطق التي سيطرت عليها وعودتها إلى معاقلها الأصلية في محافظة إدلب. لا يمكن لمراقب هذه التطورات إلا أن يدهشه هذان التطوران المتتاليان في غضون بضعة أيام.
ربما من الحصافة عدم قراءة هذه التطورات الغريبة بمعزل عن المباحثات الدائرة في الظل بين تركيا والنظام الأسدي منذ شهرين أو أكثر. فقد قام رئيس جهاز الاستخبارات التركي دمشق، الشهر الماضي، وتباحث مع نظيره علي مملوك على مدى يومين في إطار مسار تطبيع العلاقات بين الجانبين بتشجيع روسي. لم تصدر بيانات رسمية عن فحوى المباحثات أو النتائج التي يحتمل أنهما حققاها، بقدر ما أشاعت المصادر الروسية أجواء «متفائلة» من وجهة نظرها تستشرف احتمالات انتقال الاتصالات من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي، وتطايرت التكهنات بشأن احتمال لقاء مباشر بين وزيري الخارجية «في أقرب وقت».
وتحدثت معظم التغطيات الإعلامية عن «شروط» النظام الأسدي لتطبيع العلاقات مع تركيا، وتتمثل في «انسحاب القوات العسكرية التركية من المناطق التي تسيطر عليها» و«قطع الدعم عن الفصائل السورية» المتعاونة معها، أي فصائل «الجيش الوطني». أما «التفاصيل العميقة» للمباحثات التركية ـ الأسدية التي لم تتوقف، فلن نعرفها إلا برؤية التغيرات التي يمكن أن تحدث في الميدان.
الصراع المسلح الذي بدأ بين فصائل «الجيش الوطني» التابع لتركيا من جهة، وفصيل «الحمزات» من جهة ثانية، على أرضية اغتيال الناشط الإعلامي محمد عبد اللطيف (أبو غنوم) وأدى إلى اجتياح قوات هيئة تحرير الشام لمنطقة عفرين، حظي بتغطية إعلامية واسعة
فهل غض النظر التركي عن تقدم قوات «الهيئة» في منطقة عفرين هو استجابة تركية لشرط نظام الأسد؟ لا يمكن الجزم بذلك، ولكن ما أكدته الأحداث الأخيرة هو قدرة تركيا على فرض وقف إطلاق النار على أطراف الصراع، هيئة تحرير الشام والفيلق الثالث، واستجابة الهيئة بسلاسة لمطلب الانسحاب. منظمة الجولاني المصنفة على قوائم المنظمات الإرهابية لدى الأمم المتحدة، كما لدى الحكومة التركية نفسها، تتمتع ظاهرياً باستقلالية عن تركيا غير موجودة لدى فصائل «الجيش الوطني»، لكنها عملياً تتمتع بحماية تركية بالنظر إلى وجود نحو عشرة آلاف جندي تركي موزعين على عشرات نقاط المراقبة في «منطقة خفض التصعيد الرابعة» في محافظة إدلب وجوارها. إنما في ظل هذه الحماية أقام الجولاني إمارته الإسلامية التي تديرها حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة. في جميع البيانات الختامية الصادرة عن اجتماعات ثلاثي آستانة، روسيا وإيران وتركيا، يتم التأكيد على وجوب محاربة «الهيئة» الموصوفة بالمنظمة الإرهابية. لكن تفاهمات روسية ـ تركية أرجأت المرة بعد المرة حسم مصيرها. لكن وجود الهيئة يلبي حاجات سياسية متنوعة للأطراف المعنية، فهي ذريعة دائمة لقصف المناطق الآهلة بالسكان من قبل روسيا والنظام، كما أنها مادة للضغط الروسي على تركيا، ووسيلة في يد تركيا للمساومة مع الشركاء اللدودين. بهذا المعنى لن يكون غريباً إذا سمحت تركيا لهيئة تحرير الشام بـ«تأديب» فصائل «الجيش الوطني» التي إضافة إلى انتهاكاتها بحق السكان وصراعاتها البينية المتواترة، أبدت نوعاً من التمرد على سيدها التركي حين شجعت مظاهرات شعبية في مناطق سيطرتها احتجاجاً على إشارات التقارب التركية مع نظام الأسد، وبالأخص تصريحات وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو الذي دعا إلى إجراء «مصالحة بين النظام والمعارضة» السوريين. تلك المظاهرات التي أحرق في إحداها العلم التركي، الأمر الذي لا يمكن للأتراك التسامح بشأنه.
أرغمت الاستخبارات التركية «الهيئة» والفيلق» على إنهاء القتال في مرحلة أولى، ثم تجدد القتال إلى أن سيطرت قوات «الهيئة» على حاجز كفر جنة القريب من مدينة أعزاز. وقيل إن قذائف سقطت على موقع للقوات التركية في المنطقة. بعدها دخلت تعزيزات عسكرية تركية مغطاة بطيران مروحي في إظهار لعزم تركيا على إرغام الهيئة على الالتزام بوقف القتال والانسحاب. وهو ما حدث يوم الثلاثاء.
ولكن بين غزو قوات الجولاني للمنطقة وانسحابها كسبت هيئة تحرير الشام اعترافاً من خصومها بشراكتها في إدارة المنطقة أمنياً ومدنياً.
هل كسبت تركيا شيئاً أو خسرت بحصيلة هذه التطورات؟ يتوقف الجواب على هذا السؤال بالنظر إلى المباحثات الدائرة بينها وبين نظام الأسد بعيداً عن الأضواء. وهو ما قد تكشفه تطورات الأيام والأسابيع المقبلة، وصولاً إلى ما قبل موعد الانتخابات العامة والرئاسية في تركيا في الربيع القادم. فهذه هي المحدد الرئيسي للسياسات التركية في سوريا وغير سوريا.
القدس العربي