حققت الصين قفزات كبرى على مستويات اقتصادية وعلمية وعسكرية، فقد كان فيها 770 مليون شخص يعانون من الفقر الشديد عام 1978، وتقلّص العدد إلى ستة ملايين في العام 2019، فيما تؤكد الحكومة الصينية أنها قضت على الفقر المدقع تماما مع نهاية العام 2020، وهو ما اعتبره البنك الدولي فعلا «غير مسبوق في التاريخ».
حصل ذلك بسبب اتباع القيادة الصينية، منذ العام 1978، خططا اقتصادية مناقضة جذريا لسياساتها السابقة، مما ساهم في نسبة نمو اقتصادي كبير سنويا، وفي ارتفاع متوسط الدخل السنوي للأسر الحضرية بنسبة 82٪ في القرى و66٪ في المدن، وتم استثمار جزء من عائدات الميزانية بين الأعوام 2013 و2021 لمحاربة الفقر، وتعزيز البنى التحتية والطرق والإسكان، وصار لدى الصين أكبر أنظمة تعليم وضمان اجتماعي ورعاية صحية في العالم.
تناظر ذلك مع إنفاق كبير على التعليم والبحث العلمي، والتصنيع فائق التقنية، والنشر الأكاديمي، وبراءات الاختراع، والتطبيقات التجارية، ويمكن اعتبار هبوط مركبة تابعة للصين على القمر، عام 2019، وهبوط روبوت صيني على سطح المريخ، عام 2021، من مظاهر الجدارة الصينية في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
على المستوى العالمي فقد أصبحت الصين أكبر ثاني اقتصاد في العالم، وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 18.5٪ من الاقتصاد العالمي، وصارت شريكة تجارية رئيسية لأكثر من 140 دولة ومنطقة بحيث أصبحت تقود العالم من حيث إجمالي حجم التجارة بالبضائع،
يمثّل مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الذي افتتحت اجتماعاته قبل أيام، أكبر حدث سياسي على المستوى الداخلي، لكنه أيضا مناسبة لقراءة موضع الصين حاليا في العالم، والسياسات التي ستتخذها القيادة الصينية، وأثر ذلك على التوازنات الدولية المقبلة، وهو أمر شديد الأهمية لصانعي السياسات بسبب الآثار الممكنة على الأوضاع العالمية، وانعكاساتها الداخلية.
ركّز خطاب الرئيس الصيني شي جينبينغ على مطالبة الحزب والبلاد بالالتفاف حوله، وأشار إلى عودة هونغ كونغ للحكم المركزي لبكين باعتبارها «انتقالا من الفوضى إلى الحكم»، كما ندّد بـ«النزعة الانفصالية» لتايوان، وأشار إلى رفض «عقلية الحرب الباردة» في العلاقات الدولية، و«التدخل في شؤون الدول الأخرى».
تخفي دعوات جينبينغ حول الوحدة و« التعزيز المستمر لوحدة كل المجموعات العرقية»، قضية شينجيانغ، حيث تتعرض الأقليات المسلمة، خصوصا الأويغور، لانتهاكات بالغة الشدة لحقوق الإنسان، أما الإشارات السياسية حول الانفصال والحرب الباردة والتدخل فهي موجهة، بالطبع، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي أكد وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، أن بكين تريد الاستيلاء على تايوان ضمن «جدول زمني أسرع بكثير» من السابق، وأن الرئيس الصيني «يتبع نهجا أكثر عدوانية في الداخل والخارج».
على مستوى الدور الاقتصادي بدا جينبينغ أكثر اعتدالا ورغبة في مراجعة الاستراتيجية الاقتصادية طويلة الأمد لبلاده، فبعد أن كان قد قال قبل سنتين إنه من الممكن مضاعفة الناتج الإجمالي المحلي للفرد الواحد في العام 2035، فقد لمّح في خطابه الأخير إلى أن «الهدف الإجمالي للتطور هو زيادة القوة الاقتصادية، والقدرات العلمية والتكنولوجية، والقوة الوطنية العامة، لنصل إلى ما يقارب متوسط للدول المتطورة» في إشارة إلى تأجيل خطط الصين للتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية عالميا.
ترتبط التقديرات المعتدلة للرئيس الصيني بتراجع نسبة الولادات وتقلص القوة العاملة وتراجع نسبة الشباب في المجتمع، وكذلك بسياسات الحصار والحجر التي اتبعتها السلطات خلال فترة انتشار وباء كوفيد 19، وبحظر تصدير تقنيات أمريكية مهمة لعرقلة الصناعة العسكرية الصينية، وقضايا أخرى. تعكس هذه القضايا، في مجملها، تناقضا وجوديا فيما يخصّ الصين «الاشتراكية»، وهي أن ازدهارها الاقتصادي والعلمي والعسكري، مرتبط، بشكل جذري، بالعولمة، وبالعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وهذا هو العامل الحاكم الذي يسمح بالصعود المذهل للصين، وبإمكانيات الهبوط أيضا.
القدس العربي