لا أبتغي الإفراط في التفاؤل حيال تقييم ما يجري في إيران هذه الأيام، ولكن كثيراً من المراقبين يعتقدون أن قتل شرطة الملالي الشابة مهسا أميني في 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، بتهمة عدم ارتدائها الحجاب بالطريقة الصحيحة، هو القطرة التي تسببت بفيضان الغضب الشعبي العارم في أنحاء إيران، تماماً مثلما كانت حادثة إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده تعبيراً عن غضبه من نظام جائر حال دونه ولقمة العيش الكريمة.
على أن الغضب الشعبي الهادر في إيران هذه الأيام لا يأتي بسبب الجوع فحسب، على رغم أن التقارير الدولية تشير إلى وجود 30 في المئة من السكان تحت خط الفقر في الدولة النفطية الغنية. خروج الإيرانيين كان بسبب غياب أكبر قيمة فطر عليها الإنسان، ألا وهي الحرية. فديكتاتورية الملالي التي أقامها الخميني في عام 1979 اعتبرت الشعب الإيراني خصمها الرئيس واعتبرته بالجملة عميلاً للغرب والولايات المتحدة الأميركية، أو كما وصفه خامنئي أخيراً بذباب أميركا.
بالأمس هدد قائد الباسيج الشعب المنتفض باستخدام القوة الغاشمة، وهو الذي يفترض به أن يكون حامي الشعب، والمتظاهرين العزل للتعبير عن حقهم المشروع بسقوط حكم المرشد بالوسائل السلمية. وفي هذه اللحظات الحرجة من تاريخ إيران، وفي خضم المآثر الأسطورية التي تسجلها نساء إيران وشبابها ومختلف مكونات الشعوب الإيرانية من الفرس والأكراد والبلوش والعرب والتركمان وغيرهم يتمنى آيات الله، المتاجرون بالدين، لو تنشق الأرض وتبتلعهم خوفاً مما سينالهم من غضب على يد الشعب الإيراني العظيم.
بالأمس قام الحرس الثوري عبر وسائل إعلامه بنشر معلومات ترهيبية لغرض شق وحدة صف قوى الثورة الإيرانية الحالية التي تشكل قومياتها المختلفة مكونها الفاعل، عبر نشر معلومات عن القوميات غير الفارسية في إيران، للإيحاء بأنها بصدد تقسيم إيران.
الانتفاضة صوت الشعب
لقد خرج الشعب الإيراني مرات عدة منذ ثورة الخميني، ضد طغيان رجال الدين ونظامهم الفاسد. ففي 2009 خرج الإيرانيون للتعبير عن رفضهم مسرحية الانتخابات الرئاسية ومحاولات قمع حرية الرأي التي يمارسها المرشد، وكانت شعارات مثل “أين صوتي؟” هي الغالبة، وعكست حقيقة إدراك الإيرانيين أن تمثيلية تدوير المرشد لعناصر النظام في كرسي الرئاسة، بين محافظين وإصلاحيين لم تعد تنطلي على الإيرانيين. حينها صمت العالم وفضلت إدارة الرئيس باراك أوباما التحاور مع خامنئي والتنكر للانتفاضة الإيرانية الخضراء من أجل الديمقراطية.
وفي عام 2017 كان الغلاء والإفقار والاحتجاج على السياسات الاقتصادية عنواناً بارزاً للانتفاضة، وتكررت شعارات إسقاط النظام مثل “الموت لروحاني، الموت للدكتاتور”. وطالب المحتجون بعدم تدخل دولة خامنئي في شؤون لبنان وغزة وأن توجه ثروات الإيرانيين إلى تحسين مستويات الشعب المعيشية.
وفي انتفاضة 2019، عادت الأحوال المعيشية لتختلط مع استنكار الأوضاع التي آلت إليها الأمور مع استمرار تصدير الثورة، وسرقة رجال الدين لخيرات البلد، ورصد مليارات لحماية النظام وتسييجه من الشعب، وجاءت تلك الانتفاضة لتأكيد أزمة شرعية الحكم، وأوضحت حجم الخلل في بنيته السياسية، وأهمية مواصلة الشعب لطريق التضحيات لإسقاط شراكة عصابات الحرس الثوري وتجار الدين في سرقة ثروات إيران.
الخصم ولاية الفقيه
وربما تشكل انتفاضة مهسا أميني خلاصة التطور في الآليات الداخلية للانتفاضة الشعبية، فكل إيران تسير اليوم خلف النساء الماجدات اللاتي يتصدرن مشهد المواجهة مع النظام في أكثر من 100 مدينة إيرانية، يطالبن بوضوح بسقوط دكتاتورية خامنئي وحكم تجار الدين. وتقول الصحافية الأميركية الإيرانية مسيح علي نجاد في تقييمها للانتفاضة الأخيرة في مقالة نشرتها الأسبوع الماضي، في مجلة السياسة الخارجية، إن هذه الانتفاضة تختلف عن سابقاتها من حيث إنها تجسد الغضب الذي تشعر به النساء الإيرانيات والشباب تجاه نظام يسعى إلى خنق رغباتهم الغالية في بلوغ الحرية، وهم يعدون بالاستمرار حتى قلب نظام الحكم رأساً على عقب.
وتعتقد الكاتبة أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقف على ثلاثة أعمدة أيديولوجية أبرزها العداء الشديد لأميركا وإسرائيل، وكراهية مؤسسية ضد المرأة الإيرانية، وما قواعد الحجاب الإلزامية المفروضة على المرأة في الأماكن العامة إلا دليل على تلك النظرة الدونية للمرأة. فإذا ما تم إسقاط أحد تلك الأعمدة الأيديولوجية بنظر الكاتبة سينهار النظام عن بكرة أبيه.
وعلى رغم تقديري البالغ لرؤية الكاتبة مسيح علي نجاد، إلا أن واقع النظام الإيراني يؤكد أن معاداة الغرب وأميركا وإسرائيل، ما هي إلا شعارات في الخطاب الإعلامي الدعائي للجمهورية الإسلامية، أما الأعمدة التي ينتصب عليها النظام فتتمثل في أيديولوجية ولاية الفقيه، وهي الخصم الرئيس للشعب الإيراني، التي يترتب عليها سيطرة رجال الدين على مقدرات ومصائر الشعوب الإيرانية، ومنها تنطلق أفكار جهنمية مثل تصدير الثورة، وزعزعة الأمن والاستقرار في دول المنطقة، وتخصيص مليارات لصناعة الأسلحة النووية والصواريخ والمسيرات التي لن تشبع جوع الإيرانيين بل تشبع تجار الموت.
أما فكرة الحجاب وهي مثار نقاش عميق في الثقافة الإسلامية، وينظر إليها باعتبارها جزءاً من الحريات الشخصية، فهي تقوم على نظرية الخنوع في دولة الملالي، لأنهم يدركون أن المرأة الإيرانية كانت وستبقى القوة الدافعة للتغيير ولبناء نظام ديمقراطي مسالم ومزدهر لكل الشعوب والمكونات العرقية في إيران. لقد كفر الإيرانيون بفكرة فرض الدين، وفرض طقوس الاستكانة لتجار الدين، وتحويله إلى شكل من أشكال العصبيات المغلقة، ودين الإسلام هو دين عالمي لكل البشر وأبعد ما يكون عن العصبيات والجمود ويرفض وجود الوسطاء في العلاقة بين الله وعباده.
وأمام عظمة الفعل الذي تقوده المرأة الإيرانية، وفي سبيل الالتفاف على دورها في الثورة الإيرانية ضد نظام الملالي، لا يستبعد أن يخرج خامنئي في الأيام المقبلة ليعلن تراجعه عن إلزامية الحجاب، في سبيل حماية نظامه المتهالك، فالأمر لم يعد ينطلي على الشعوب الإيرانية التي فطنت الدرس، وهي تدرك اليوم من يكون خصمها، وكيف السبيل إلى تحرير إيران والمنطقة برمتها من الخطر الذي تمثله أيديولوجية الولاية.
التضامن الدولي
اليوم، يقف العالم متفرجاً على شعب عظيم يقمعه مئات من عصابات الباسيج والحرس الثوري وهو صامد في شوارع جميع المدن الإيرانية، أين التضامن الدولي؟ في الوقت الذي يقوم فيه النظام بخطوات استراتيجية لتهديد أمن القارة الأوروبية. وقد سبق لي أن حذرت من خطر بلوغ الصواريخ الإيرانية التي تتحكم فيها ميليشيات إيران الإرهابية المنتشرة في المنطقة، إلى المدن الأوروبية. وها هي المسيرات الإيرانية تقصف البنية التحتية في أوكرانيا وتدمر محطات إنتاج الكهرباء فيما يعمل عملاء الحرس الثوري لإيصال الصواريخ إلى العمق الأوروبي. فمتى تتحرك أوروبا وأميركا وبقية دول العالم.
إن المنطق يتطلب أن يتحرك الموقف الدولي تجاوباً مع تطلعات الشعب الإيراني، الأمر الذي يستدعي وقف كل أشكال الاتصال والاعتراف والتفاوض مع نظام خامنئي، وتحديداً ما يتصل بالتفاوض على الاتفاق النووي. فالعودة إلى الاتفاق في الظروف الحالية ستشكل خيانة لإرادة الشعب الإيراني، تماماً مثلما نظر الإيرانيون إلى موقف الرئيس أوباما في 2009. وسيمكن الاتفاق في حال الوصول إليه خامنئي من مليارات الدولارات لقمع الشعب الإيراني المنتفض في شوارع المدن الإيرانية، ودعماً للتنظيمات الإرهابية، وتخصيص مزيد من الأموال لبرامج إيران المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
اليوم، الشعب الإيراني يتوقع رسائل التضامن من قادة دول العالم مع انتفاضته الباسلة، باعتبارها حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان. فهل يقدم العالم على خطوات تؤازر الشعب وتسهم في مزيد من عزل نظام خامنئي، مثل قيام الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة باتخاذ خطوات عملية لقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية وطرد دبلوماسيي النظام المعروفين بولائهم للحرس الثوري والنظام الدكتاتوري.
اندبندت عربي