موجة التصعيد في منطقة “يهودا والسامرة” ترفض الانطفاء، وتجسد بأن إسرائيل تغرق بالتدريج بفخ استراتيجي. حجم التحديات الناشئة في الساحة الفلسطينية يزداد، عدد البدائل التي أمام إسرائيل يقل، وتلك التي تبقت تتراوح بين السيئة والأسوأ. موجة التصعيد الحالية تختلف بمزاياها وبطولها عن تلك التي نشبت وانطفأت حتى اليوم، وعلى رأسها “انتفاضة السكاكين” التي وقعت بقوى متغيرة بين نهاية 2015 وبداية 2016. التصعيد الحالي يعكس مشكلات أساسية عديدة تجسد صعوبة في الحفاظ على الاستقرار النسبي الذي قام على مدى نحو عقد ونصف في “المناطق” [الضفة الغربية] من خلال الأدوات المعروفة.
ميزتان أساسيتان هما الأبرز للتصعيد الحالي، تنبعان من تيارات عميقة في الساحة الفلسطينية، لكنهما تؤثران مباشرة على إسرائيل: الأولى، رفع رأس الجيل الفلسطيني الشاب، ذاك الذي أسس رفاقه شبكات الإرهاب مثل “عرين الأسود” في نابلس أو “عش الدبابير” في “المناطق”. جيل Z الفلسطيني بعد العام 2000 ووعيه لم تكوِه صدمات الماضي التي لجمت آباءه. وهو ينفر من كل صلة بالجهات الفلسطينية “المؤطرة” وعلى رأسها السلطة. هو في مجال الشبكة، ويدفع بأعمال عسكرية تعتمد على أساس أيديولوجي متهالك جداً “شعاري” في معظمه.
الميزة الثانية هي الضعف الوظيفي والفكري المتزايد للسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن. وينبع هذا الضعف في قسمه الصغير من عدم التقدم في المسيرة السياسية أو من غياب حوافز اقتصادية وبقدر أكبر من مزايا الحكم في رام الله: فساد، ومحسوبية، وخرق حقوق إنسان، وتعفن سياسي عميق، وغياب الديمقراطية (منذ 16 سنة لم تجر انتخابات في السلطة). معظم الجمهور الفلسطيني ينفر من قيادة السلطة، لكنه يرى فيها “شراً لا بد منه”) للحفاظ على نسيج حياته. هذه هي الفكرة السائدة في أوساط الجمهور، لكن الشبان يبدون ابتعاداً متزايداً عنها ويظهرون عداء – سواء تجاه إسرائيل أم اتجاه السلطة.
إن التوتر المتواصل في “المناطق” [الضفة الغربية] ينطوي على إمكانية كامنة لتطور تهديدات استراتيجية إزاء إسرائيل، وعلى رأسها “نسخ” نماذج نابلس وجنين إلى مواقع أخرى، بشكل يضعضع مكانة السلطة المتهالكة أصلاً، ويلزم إسرائيل بالدخول إلى فراغات حكومية تنشأ للقضاء على تهديدات أمنية. لكن يمكن للانجذاب أن يتسع لدرجة إدارة شؤون مدنية مثلما كان حتى 1994. وثمة تهديد آخر يحدق من جهة حماس، التي ترمي للاستيلاء على قيادة الساحة الفلسطينية، وترى في “اليوم التالي” لأبو مازن فرصة جيدة لهذا الغرض، من خلال الدفع قدماً بالمصالحة الداخلية وبالانتخابات العامة.
وإسرائيل في ضوء هذا الواقع، في انكسار استراتيجي؛ من جهة، يفهم كثيرون فيها الخطر الكامن في استمرار التدهور إلى واقع الدولة الواحدة، وهو سيناريو احتمالات يتعزز تحققه كلما ضعف الحكم الفلسطيني وتعاظمت الصلة المدنية والاقتصادية بين إسرائيل و”المناطق”. من الجهة الأخرى، كثيرون في إسرائيل بل وربما معظم الجمهور يعارضون رؤية الدولتين التي احتمالية تحققها متدنية في ضوء الانقسام العميق في الساحة الفلسطينية التي هي في أفضل الأحوال كفيلة بأن تسمح “بثلاث دول للشعبين”. الأفكار المرحلية التي تعتمد عليها إسرائيل في السياق الفلسطيني في العقدين الأخيرين وأتاحت تجميد الوضع دون اتخاذ حسم استراتيجي، تبرز بأنها ذات مدى محدود وفقاً للتصعيد الحالي. إدارة النزاع، والسلام الاقتصادي، مثلما هي أيضاً فكرة تقليص النزاع، كان يفترض بها أن توفر الهدوء على مدى الزمن في ظل تجاوز المشاكل الأساس. أما عملياً، فتبرز مشاكل الماضي التي تتطلب حلاً، وعلى رأسها خطر الاندماج المتواصل بين الجماعتين السكانيتين.
ثمة من يصدون مثل هذا التحليل بجملة من التعليلات: هناك فصل بين إسرائيل والفلسطينيين (حجة صحيحة بالنسبة لغزة، لكنها تتبدد في سياق الضفة)؛ ولا يوجد إلحاح لاتخاذ الحسم، وخصوصاً المتعلق بالجوانب الإقليمية؛ وإن الزمن يلعب في صالح اليهود الذي ازداد وزنهم الديمغرافي بشكل سيكبح المساواة العددية بين الجماعتين السكانيتين الآن وفي المستقبل.
بعد 49 سنة من حرب يوم الغفران، من الصواب أن نتذكر بأن إحدى المشاكل الأساس في الجانب الإسرائيلي – إلى جانب الاستخفاف بالعرب وغياب فهم ثقافتهم – هي فرضية انعدام الدافع لاتخاذ الحسم والإيمان بقوة الوضع الراهن. مثلما في 1973 ثم عقب الانتفاضتين الأولى والثانية، ستصل إسرائيل في النهاية إلى حسم استراتيجي. لكن من مواقع غير مرغوب فيها من المفاجأة، رد الفعل والدونية – وليس انطلاقاً من المبادرة.
نقاش وجودي
ما يجري في الجانب الفلسطيني يعمق التشاؤم من المستقبل. يتخذ أبو مازن صورة الزعيم الذي لا يمكنه أن يحدث اختراقاً تاريخياً للتسوية؛ والمستقبل بعده مفعم بالغموض، وفي مركزه سلسلة زعماء شاحبين غير محبوبين، وربما لن يرغبوا أو يكون بوسعهم الدفع قدماً بحسم لم يتخذه جيل المؤسسين الفلسطينيين؛ وقسم كبير من الفلسطينيين يبدي يأساً من الواقع ومن قيادته، ويظهرون عطفاً لفكرة الدولة الواحدة “التي يمكنها زعماً أن تمنحه رفاهاً اقتصادياً في المدى القصير وربما البعيد.
تقف حماس كبديل لمنطق السلطة، وهي التي تتطلب شحنة كبيرة من التفاؤل والقناعة الذاتية للإيمان بأن عبء الحكم يخفف حماستها الأيديولوجية التي تضع في مركزها إقامة دولة على كامل أرض فلسطين التاريخية في ظل إبادة إسرائيل.
يدور الحديث إذن عن وقفة حيال جملة هزيلة من البدائل السيئة حين تدق ساعة التاريخ. في هذا السياق، من الصواب النظر إلى البديل القديم لخطوة من طرف واحد، اتخذتها الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل كثيراً، وفي الغالب بعد يأس من القدرة على تصميم الواقع في ظل التعاون مع الطرف العربي. لقد صاغ آرثور روفين الفكرة بشكل أليم بكلمات: “ما يمكننا أن نحصل عليه من العرب ليس مطلوباً لنا، وما هو مطلوب لنا لا يمكننا أن نحصل عليه”، وبذات أهون الشرور، اتخذ آخرون: ابتداء من وايزمن وبن غوريون وانتهاء بشارون.
إن الجدال الإسرائيلي الداخلي يتطلب إنعاشاً وتحديثاً. الجدال بين مؤيدي رؤية الدولتين وأولئك الساعين لمنعه بواسطة تقليص النزاع، فما بالك ضم الضفة، جدال عدَمي. أما الجدال الحقيقي الذي يجب أن يدار فهو بين أولئك الساعين لنصب فاصل مادي بين الجماعتين السكانيتين، وأولئك الذين يؤمنون بالقدرة على بقاء الوضع الحالي أو حتى تطوير كيان مشترك، رؤية تؤيدها محافل متطرفة في اليمين واليسار، فيما أن في وعي كل واحد منها ينغرس فكر متضارب حول طبيعة تلك الدولة ومن سيحكمها.
إن مجرد طرح فكرة أحادية الجانب، يجر تلقائياً هجوماً شديد القوة: سواء من جانب أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بالقدر على التوصل إلى تسوية متفق عليها بين الشعبين، سواء من جانب طارحي ذاكرة الصدمة لفك الارتباط والتهديدات الأمنية التي خلقها، أم من جانب الذين يرفضون تغييرات إقليمية في نطاق بلاد إسرائيل التاريخية أو يحذرون (وعن حق) من شرخ داخلي شديد قد ينشأ في المجتمع اليهودي عقب خطوات كهذه.
لا يجب الاستخفاف بتلك الحجج ثقيلة الوزن، لكن إسكات هذا التفكير النقدي والحاجة إلى النظر مباشرة إلى الواقع وتخيل المستقبل، وبخاصة ذاك الذي ينعدم خطاً فاصلاً بين الجماعتين السكانيتين. فاصل كهذا لا يعني بالضرورة دولة مستقلة، بل ربما يكون حكماً ذاتياً ذا حدود مثلما اعتقد الون ورابين في الماضي. أي خطاب إسرائيلي داخلي عن الفاصل سيكون عاصفاً بالتأكيد، والمستقبل الكامن فيه ليس مثالياً: قد تتواصل التهديدات من الساحة الفلسطينية وسيكون ذاك الكيان متعلقاً بإسرائيل اقتصادياً؛ وهذا ليس سهلاً إذا كان ممكناً أصلاً وجود شريك فلسطيني، وسيتعين على إسرائيل أن تحافظ على ذخائر أمنية (وبخاصة التواجد في الغور).
إن واقعاً كهذا سيكون أفضل من السير نحو مستقبل ربما يكون مليئاً بتهديدات داخلية وخارجية خطيرة أكثر بكثير. هذا نقاش وجودي من الضروري للحكومة المستقبلية أن تضعه على رأس جدول أعمالها، وجدير بأن يطالبها الجمهور الإسرائيلي بذلك.
. ميخائيل ميلشتاين
القدس العربي