في ظل تعثر “العملية العسكرية الخاصة” التي بدأتها روسيا في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، والخسائر التي تكبدتها موسكو خلال الأسابيع القليلة الماضية، كشفت تقارير صحفية غربية عن محاولات روسية لجذب مقاتلين أجانب للقتال إلى جانبها.
وفي هذا السياق، ذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، يوم 25 أكتوبر الماضي، أن ثمة محاولات روسية لتجنيد “الكوماندوز الأفغاني” للقتال في أوكرانيا، نقلاً عن مقاتلين سابقين قالوا إنه تم الاتصال بهم عبر خدمتي الرسائل WhatsApp وSignal، وإنهم يعتقدون أن شركة الأمن الروسية الخاصة “فاجنر” وراء هذه الحملة، وأن ما يصل إلى 10 آلاف “كوماندوز أفغاني” سابق قد يكونوا على استعداد لقبول عرض “فاجنر”، لا سيما في ظل شعورهم بتخلي الولايات المتحدة عنهم عقب انسحابها من أفغانستان في منتصف أغسطس 2021، وعودة حركة طالبان للحكم في كابول.
وتأتي هذه التقارير في ظل استعانة طرفي الحرب الروسية – الأوكرانية بمقاتلين أجانب، لتعزيز القدرات العسكرية لكل طرف في مواجهة الآخر، حتى باتت هذه الظاهرة نمطاً معتاداً في الحرب الجارية.
بيئة مواتية:
يرى البعض أن ثمة بيئة مواتية قد تساعد على نجاح مساعي روسيا لتحقيق هدفها في تجنيد المقاتلين الأفغان، للأسباب التالية:
1- خذلان واشنطن: قاتل ما بين 20 ألفاً و30 ألفاً من القوات الخاصة الأفغانية مع الولايات المتحدة خلال الحرب التي استمرت على مدار عقدين، ولم يتم نقل سوى بضع مئات من كبار الضباط جواً عندما انسحب الجيش الأمريكي من أفغانستان؛ وذلك نظراً لأن العديد من عناصر “الكوماندوز الأفغاني” لم يعملوا بشكل مباشر مع الجيش الأمريكي، ولم يكونوا مؤهلين للحصول على تأشيرات أمريكية خاصة. وعقب استعادة طالبان للسلطة في كابول في أواخر أغسطس 2021، وخوفاً من انتقام الحركة؛ فر العديد من أفراد وضباط الجيش والشرطة والمخابرات الموالين للحكومة المخلوعة في أفغانستان إلى إيران وباكستان ودول أخرى.
2- تهديدات طالبان: في حين تم نقل أكثر من 80 ألف أفغاني معرضين للخطر ممن عملوا أو قاتلوا إلى جانب القوات الأمريكية والغربية الأخرى، مع تقدم طالبان في كابول، فقد تُرك عشرات الآلاف في أفغانستان يتعرضون للاعتقال أو التعذيب والقتل هم وأفراد أسرهم، من جانب حكومة طالبان. وفي هذا الصدد، ذكرت منظمة “هيومان رايتس ووتش” أن أكثر من 100 جندي أفغاني سابق وضباط استخبارات وشرطة قُتلوا أو اختفوا قسراً بعد ثلاثة أشهر فقط من تولي طالبان زمام الأمور على الرغم من وجود وعود بالعفو عنهم. ووثقت الأمم المتحدة، في تقرير صدر في منتصف أكتوبر الماضي، 160 حالة إعدام خارج نطاق القضاء، و17 حالة اعتقال لمسؤولين حكوميين وعسكريين سابقين في أفغانستان.
وفي ظل رفض طالبان دمج “الكوماندوز الأفغاني” في جيشها الجديد بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد، اتجهت عناصر هذه القوات للهروب خوفاً من الانتقام، وباتوا “لقمة سهلة” للعمل كمرتزقة، في ظل معاناة الكثيرين من عدم وجود مصدر للدخل، ومن ثم هرب قسم كبير منهم إلى الخارج، وهو ما قد يسهل على موسكو تجنيدهم في حال تقديمها إغراءات مادية.
3- إغراءات موسكو: في 20 سبتمبر الماضي، وعشية إعلان عملية “التعبئة الجزئية” للجيش الروسي في أوكرانيا، أقر مجلس الدوما تعديلات قانونية تُقدم للأجانب مساراً سريعاً للحصول على الجنسية الروسية مقابل عام من الخدمة العسكرية في القوات المسلحة للاتحاد الروسي، وغيرها من القوات أو التشكيلات العسكرية. وفي الأسابيع التالية، تسلم المهاجرون، لا سيما من دول آسيا الوسطي، منشورات تتعهد بالحصول على أجور تزيد عن 3 آلاف دولار شهرياً للخدمة في الجيش الروسي. وفي 4 نوفمبر الجاري، أمر الرئيس بوتين بصرف 195 ألف روبل (3200 دولار) ولمرة واحدة للجنود المتعاقدين وأولئك الذين تم استدعاؤهم للقتال في أوكرانيا.
ومن ناحية ثانية، تحاول “فاجنر” تعزيز صفوفها في أوكرانيا من خلال تجنيد “الكوماندوز الأفغاني” وعناصر قوات الأمن الأخرى الذين فروا إلى إيران بعد استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان. وفي هذا الإطار، أكد ثلاثة جنرالات أفغان سابقين لوكالة “أسوشييتد برس”، في 31 أكتوبر 2022، أن الروس يريدون جذب الآلاف من أفراد قوات “الكوماندوز الأفغاني السابقة إلى “فيلق أجنبي” من خلال عرض مدفوعات ثابتة بقيمة 1500 دولار شهرياً ووعود بملاذ آمن لأنفسهم ولعائلاتهم.
4- تشجيع إيراني: في مايو 2022، أفاد المفتش العام الأمريكي الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR)، أنه حتى قبل سقوط كابول، عبر حوالي 3 آلاف من قوات الأمن الأفغانية المكونة من ضباط رفيعي المستوى وجنود المشاة، إلى جانب معداتهم العسكرية ومركباتهم، الحدود إلى إيران، لكن كثيرين منهم عادوا إلى أفغانستان بعد أن عرضت طالبان عفواً عاماً.
وبعد وقت قصير من عودة طالبان إلى السلطة، ورد أن إيران عرضت تأشيرات مؤقتة على الأفغان الذين يمكن أن يثبتوا أنهم خدموا في الجيش الأفغاني. وقال قائد الجيش الأفغاني السابق، هيبت الله علي زاي، إن الكثير من جهود التجنيد الروسية تتركز على طهران ومشهد، وهي مدينة بالقرب من الحدود الأفغانية. كما تؤكد تقارير أن السلطات الإيرانية كانت تمنح قوات “الكوماندوز الأفغاني” التي انتقلت إلى إيران، إنذاراً نهائياً إما بالعودة إلى أفغانستان أو القتال مع روسيا في أوكرانيا. وليس من الواضح عدد “الكوماندوز الأفغاني” الذين استدرجتهم موسكو، لكن أحدهم قال لوكالة “أسوشيتد برس” إنه يتواصل من خلال خدمة الدردشة عبر WhatsApp مع حوالي 400 من الكوماندوز الآخرين الذين يفكرون في العروض الروسية، التي تتضمن تأشيرات لهم وأسرهم.
عراقيل التجنيد:
هناك عراقيل قد تواجه موسكو في مسعاها لتجنيد أو استقطاب عناصر “الكوماندوز الأفغاني” أو غيرهم من الأفغان للقتال مع القوات الروسية في أوكرانيا، وأهمها ما يلي:
1- جذب واشنطن الحلفاء الأفغان: يُبدي القادة العسكريون والسياسيون الأمريكيون قلقاً متزايداً بشأن تقاعس بلادهم عن إجلاء حلفائهم الأفغان الذين قاتلوا معهم ضد طالبان طوال 20 عاماً، وهو ما يفتح الباب أمام احتمال ألا يكون أمامهم سوى الانضمام إلى طالبان أو الخصوم الإقليميين.
وفي أغسطس 2022، استعرض تحقيق بقيادة الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي، الخطر الذي تتعرض له الولايات المتحدة من قِبل عناصر “الكوماندوز الأفغاني” التي فرت إلى إيران، لا سيما بشأن إمكانية إدلائهم بمعلومات حول التكتيكات الأمريكية إلى تنظيم داعش أو إيران أو روسيا؛ نظراً لأن هؤلاء الأفغان يعرفون التكتيكات العسكرية ومجتمع المخابرات الأمريكية.
وخوفاً من إمكانية حدوث ذلك، وقطعاً للطريق على موسكو أو أي خصوم آخرين لاجتذاب عناصر القوات الأفغانية السابقة، تم إطلاق مجموعات متعددة بقيادة قدامى المحاربين الأمريكيين للمساعدة في إخراج حلفائهم الأفغان من البلاد، سواء إلى الأراضي الأمريكية أو بلدان أخرى حليفة مثل كندا أو أستراليا، أو حتى تجنيدهم للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية ضد روسيا في الحرب الحالية. ومن ناحية ثانية، وفي إطار مفاوضاتهما في الدوحة، قد تحاول واشنطن إقناع طالبان بدمج عناصر “الكوماندوز الأفغاني” في بنيتها الأمنية والعسكرية، على غرار دمج عناصر “الصحوات” في الجيش العراقي.
2- العداء التاريخي بين الأفغان وروسيا: إن الأفغان عموماً، وليس طالبان فحسب، لديهم مواقف عدائية وسلبية تجاه روسيا بسبب غزوها لأفغانستان في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وعلى خلفية التجاذب الروسي- الأمريكي بشأن مصير “الكوماندوز الأفغاني”، قد تبادر حركة طالبان لجذبهم ودمجهم في القوات الأفغانية الحالية، فالأمر قد لا يقتصر على مجرد تجنيد أو استقطاب موسكو لعناصر مدربة، لكن قد يمتد لتوريط أفغانستان في حرب أوكرانيا، وبالتالي يخل بأمنها القومي.
وفي المقابل، فإن ثمة شكوكاً وهواجس روسية بشأن ولاء وكفاءة عناصر “الكوماندوز الأفغان” الذين تدربوا وخدموا مع القوات الأمريكية في أفغانستان على مدى 20 عاماً، ولديهم عقيدة قتالية مختلفة وتدربوا على معدات ومع جنرالات مختلفين، هذا فضلاً عن المخاطر الأمنية التي يمكن أن تنطوي عليها مسألة تجنيد المرتزقة عموماً. ففي منتصف أكتوبر 2022، وخلال تدريب بالأسلحة النارية في قاعدة تدريب روسية، فتح رجلان النار على آخرين كانوا قد تطوعوا للقتال في حرب أوكرانيا، وهو ما أودى بحياة ما لا يقل عن 11 شخصاً.
ختاماً، في ظل تنامي حاجة روسيا لتعويض النقص في قواتها بمقاتلين يتمتعون بخبرة طويلة، والاعتماد بشكل متزايد على المرتزقة من الشيشان ودول آسيا الوسطي لدعم قواتها في أوكرانيا، فإن تفكيرها في إمكانية الاستعانة بعناصر “الكوماندوز الأفغاني” يبدو مبرراً، لكن التأثير المحتمل لهذه العناصر ذات التدريب والمهارات والخبرات العالية – في حال موافقتهم على المشاركة إلى جانب الروس في حرب أوكرانيا – يبقى موضع خلاف وتباين. ففي حين يرى البعض أن مشاركة عناصر “الكوماندوز الأفغاني” في هذه الحرب “ستغير قواعد اللعبة” لصالح روسيا، فإن خبراء عسكريين آخرين يعتبرون أن القوات الأفغانية مشتتة للغاية، بحيث لا يمكن تجنيدها بأعداد كبيرة لتشكيل قوة قتالية موحدة، لا سيما في ظل فشلها في الدفاع عن كابول في مواجهة طالبان، فضلاً عن الشكوك والمبالغات حول أعداد هؤلاء “الكوماندوز” الذين قد لا يتجاوزن عشرات الآلاف أو حتى آلاف.
مركز المستقبل للدراسات