كان الدافع وراء إطلاق أنقرة عملية “المخلب السيف” في الشمال السوري هو الانتقام للهجوم الذي شُن في شارع الاستقلال في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، لكنها تركز في النهاية على استكمال إنشاء “المنطقة الآمنة” بعد إبعاد القوات المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني من المناطق الحدودية الحساسة، وتمكين عودة اللاجئين السوريين، وضمان التأثير التركي على الترتيبات السياسية النهائية لإنهاء الحرب في سورية.
* * *
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نيته إطلاق المرحلة البرية قريبًا من عملية “المخلب السيف”، وهي عملية عسكرية تهدف، بحسب التصريحات الرسمية التركية، إلى تطهير المناطق الواقعة على طول الحدود الجنوبية لتركيا من المقاتلين التابعين لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي صنفته الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية.
وأشار أردوغان إلى نية بلده إطلاق عملية جديدة كبرى في شمال سورية منذ حزيران (يونيو) على الأقل من هذا العام، لكنه أكد باستمرار على أن التوقيت سيكون من اختياره: “فجأة في منتصف الليل سوف نكون هناك”. ويبدو أن الاستعدادات للعملية البرية قد اكتملت تقريبًا، لذلك يمكن أن تبلغ الساعة منتصف الليل في غضون أيام.
جاء هذا التصعيد الجديد بعد تفجير دامٍ وقع في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) في شارع الاستقلال الشهير والمزدحم في اسطنبول، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص.
وفي الرد على ذلك، نفذت تركيا اعتقالات واستجوابات لتحديد هوية منفذة العملية التي تم تحديدها وشبكة دعمها، وأوضحت التفاصيل وجود علاقات مزعومة لها مع الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، أو ما تسمى “وحدات حماية الشعب” التي يسيطر عليها الأكراد.
وكانت الجماعات التابعة لحزب العمال الكردستاني، بما في ذلك وحدات حماية الشعب، نفذت هجمات في تركيا وضد أهداف تركية في سورية قبل وبعد بداية عملية “المخلب السيف”. ولذلك، من وجهة نظر أنقرة، فإن تفاصيل القصف تبقى ثانوية. أما الأهم من ذلك فهو التزام أردوغان بإزالة وحدات حماية الشعب الكردية من مسافة ثلاثين كيلومترًا (18.6 ميلاً) من الحدود التركية، على الأقل غرب نهر الفرات.
وهذا يعني على الأرجح شن عملية عسكرية ضد تل رفعت ومنبج، المناطق الخاضعة لسيطرة مشتركة من وحدات حماية الشعب وقوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد، التي تمت منها مهاجمة القوات التركية وشركائها من الجيش الوطني السوري.
قد تتسبب العملية المرتقبة في ازعاجات بالنسبة لواشنطن، لكنها قد تقدم فرصة للولايات المتحدة وتركيا لإيجاد حل نهائي بعيد المنال للصراع السوري -إذا تمكنتا من التغلب على انعدام الثقة بينهما. وستكون هذه العملية هي الأحدث في سلسلة طويلة من العمليات التي شنتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وسورية. ومنذ إطلاقها في 20 تشرين الثاني (نوفمبر)، كانت العملية في الغالب غارات جوية وقصفًا مدفعيّا متواصلاً، مع استخدام طائرات مقاتلة وأخرى من دون طيار. وقد دفعت التوقعات بشأن شن عملية برية إلى تواصل عاجل من واشنطن وموسكو لمنع- أو الحد من- نطاق الهجوم البري، لكن البيانات الرسمية التركية والعمليات السابقة لا تدع مجالًا للشك في حدوثه.
يجد أردوغان نفسه محشورًا بين الموقفين الروسي والأميركي المعارضين لأي عملية لاجتياح الشمال السوري. وكان الدافع وراء إطلاق أنقرة عملية “المخلب السيف” هو الانتقام للهجوم الذي شُن في شارع الاستقلال في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، لكنها تركز في النهاية على استكمال إنشاء “المنطقة الآمنة” بعد إبعاد القوات المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني من المناطق الحدودية الحساسة، وتمكين عودة اللاجئين السوريين، وضمان التأثير التركي على الترتيبات السياسية النهائية لإنهاء الحرب في سورية.
مع خروج “وحدات حماية الشعب” من منبج وتل رفعت، سيتم نقض المكاسب التي حققتها المجموعة بعد العام 2015 في شمال غرب سورية الذي يغلب عليه العرب -والتي يعتقد الأتراك أنها اكتسبت القوة بدعم من قبل الغرب.
أعلن تحالف أحزاب المعارضة السياسية التركية المناهضة لأردوغان، (الستة)، عن دعمه للعمل العسكري لتأمين المناطق الحدودية، بينما دعم الرأي العام التركي بشكل عام العمليات عبر الحدود ضد حزب العمال الكردستاني.
في الوقت الحالي لا يبدو أن الولايات المتحدة ولا روسيا في وضع يسمح لهما بإيقاف عملية برية تركية من البداية، على الرغم من أنهما ستمارسان ضغوطًا بلا شك لإنهائها بمجرد حدوثها. ومن المحتمل أن يتم إطلاع رؤساء المخابرات في كلا البلدين على المجريات خلال الزيارات الأخيرة لأنقرة، وخيط الرهان في أنقرة هو أن سيتم التسامح مع العمليات البرية غرب نهر الفرات ضمنيًا إذا كانت متواضعة من حيث النطاق وحذرة من حيث التنفيذ. وقد تكون هذه آخر عملية برية تعتبرها أنقرة ضرورية لإعلان النجاح في إنشاء “منطقتها الآمنة” في شمال سورية.
من شبه المؤكد أن العمليات البرية ستتجنب كوباني، الواقعة في شرق نهر الفرات، لعدد من الأسباب: فسكانها من الأكراد بأغلبية ساحقة ومؤيدون لحزب العمال الكردستاني بشكل عام، وسيكون من الصعب للغاية الاستيلاء عليها أو إدارتها، كما أنها متاخمة للمناطق التي تتواجد فيها القوات الأميركية.
قد تحرك العمليات البرية التركية الأصوات في واشنطن والداعية إلى حماية الوضع الراهن في شمال شرق سورية من خلال التهديدات والعقوبات، مثل تطبيق أحكام الأمر التنفيذي رقم 13894 للعام 2019 بإيقاع عقوبات على المسؤولين والوزارات الأتراك. لكن مثل هذه التهديدات لم تحل دون تنفيذ العمليات التركية في الماضي، على الرغم من أنها قد تعجل في إنهاء عمليات محددة. وتنطوي العقوبات على خطر تصعيد المشاعر القومية والمناهضة للولايات المتحدة في تركيا، أو تهديد المصالح الغربية الأخرى المتعلقة بتوسيع أوكرانيا وإيران وحلف شمال الأطلسي.
حجة أردوغان لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني لم تكن كافية، من غير المحتمل أن تدخل واشنطن، أو عواصم غربية أخرى، هذا النوع من لعبة النفوذ على عملية برية تمت الإشارة إليها، وتحديد حدودها، وإعدادها بدقة. ويبقى الجيش الأميركي في سورية صراحة لقمع فلول “داعش”، وضمنيا لردع توسع الأنشطة الإيرانية الخبيثة. وقد تدفع العمليات البرية التركية “وحدات حماية الشعب” إلى تعليق تعاونها في العمل ضد “داعش”، لكن من المحتمل أن يكون هذا مؤقتًا لأن مثل هذه العمليات هي شرط لا غنى عنه للدعم الأميركي لـ”قوات سورية الديمقراطية”، التي تشكل وحدات حماية الشعب المكون الأساسي لها.
كما حدث في العملية التركية الكبرى الأخيرة في شمال سورية -عملية “نبع السلام” في العام 2019- من المرجح أن تحافظ أنقرة على حدود واضحة لنطاق عمليتها البرية وتتجنب بدقة المناطق القريبة من القوات الأميركية من أجل حماية حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني في سورية من الولايات المتحدة وقوات سورية الديمقراطية ضد فلول “داعش”.
وكانت أنقرة وواشنطن تتحاوران بشأن شمال سورية كل الوقت منذ تحالف الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب في أواخر العام 2014، ولكن في أعقاب العملية الحالية واحتمالات توسعها، قد تكون هناك فرصة لمعالجة نهائية مقبولة للطرفين للصراع السوري.
حسب الأخبار الأخيرة، يفكر أردوغان في إعادة العلاقات مع الأسد، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يعقد أي صفقات لا تحمي المعارضة السورية والمصالح الأمنية التركية. ومن جانبها، يبدو أن واشنطن قد قبلت اقتراح أن يبقى الرئيس الأسد على الأرجح في السلطة، على الرغم من أنه يجب الضغط عليه للحصول على معاملة مقبولة لبلده وشعبه في ترتيبات ما بعد الصراع. ويبدو أن اللاعبين اللذين يملكان أقوى الأوراق لانتزاع هذه التنازلات من الأسد هما تركيا والولايات المتحدة. لكن العائق أمام تعاونهما هو القلق التركي من وجود وحدات حماية الشعب بالقرب من حدودها.
قد تؤدي عملية عسكرية محددة ومحكومة بدقة إلى تقليل التهديد الذي يشعر به الأتراك من دون إصابة قوات سورية الديمقراطية أو الحملة ضد تنظيم “داعش” بإصابات قاتلة، وسيكون ذلك مرضيًا للبيت الأبيض وسيفهم على أنه استعراض عضلات من طرف أردوغان من أجل الداخل التركي لترميم شعبيته المتصدعة انتظارا لانتخابات العام 2023.
الغد