مع اقتراب السنة 2022 من نهايتها ومع قرب دخول الحرب الأوكرانيّة شهرها الحادي عشر، يخرج فلاديمير بوتين كأحد أكبر الخاسرين من أحداث هذه السنة. تجرأ الرئيس الروسي على أوكرانيا قبل اكتشافه أنّها ليست لقمة سائغة.استخف بالإدارة الأميركيّة الحاليّة التي لا تزال إدارة حائرة منذ اليوم الأوّل لدخول جو بايدن البيت الأبيض. أين كان بوتين قبل عشرة أشهر وأين صار الآن؟ بات في الحضن الإيراني وبات عليه الاستعانة برجب طيب أردوغان من أجل ألّا يكون رهينة “الجمهوريّة الإسلاميّة” وصواريخها ومسيّراتها.
كان مشهد استقباله الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي أجلسه في إحدى قاعات الكرملين، في ظلّ تمثال ضخم للقيصر إسكندر الثاني، على الطرف الآخر من طاولة تتميّز بطولها، كافيا لإظهار مدى الاستخفاف الروسي بفرنسا. كان ذلك مع بداية الحرب الأوكرانية. تغيّر المشهد كلّيا الآن.
خسر بوتين معظم أوراقه بعدما تبيّن أن روسيا دولة ذات اقتصاد ضعيف وأسلحة من النوع المتخلّف، فيما لا يريد شعبها أن يحارب. الأهمّ من ذلك كلّه، أن التحذيرات التي صدرت عن الأوروبيين والأميركيين لم تكن جوفاء. ليس فلاديمير بوتين في نهاية المطاف سوى دكتاتور آخر من العالم الثالث مع سلاحين كان يمكن أن يلعبا لمصلحته. السلاح النووي أوّلا والثروة النفطية والغازيّة ثانيا. جعل ذلك فلاديمير بوتين يتصرّف بطريقة الواثق من نفسه.
◙ فلاديمير بوتين كان يستطيع النجاح في حربه الأوكرانية من دون أن يخوضها لكنه قرّر خوض تلك الحرب علما أنّه كان عليه أن يربح حربه على الفقر والتخلف في داخل روسيا نفسها
أعاد بوتين العالم إلى أيّام الحرب الباردة بعد ثلاثين عاما بالتمام والكمال على تفتت الاتحاد السوفييتي وإعلان ذلك رسميّا أوائل العام 1992 بعد اعتراف ميخائيل غورباتشوف أواخر العام 1991 بانهيار القوّة العظمى الثانية في العالم. المفارقة أنّ خطاب غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، لم يلق في حينه الاهتمام العالمي المتوقّع، بل مرّ مرور الكرام في مرحلة حفلت بالأحداث منذ انهيار جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 وبدء دول أوروبا الشرقيّة التصرّف بمعزل عن الأخ الأكبر في موسكو.
كشف بوتين أنّه لا يجيد لعب أوراقه. من ورقة امتلاك السلاح النووي والصواريخ بعيدة المدى… إلى ورقة النفط والغاز. تبيّن بكل بساطة أنّه لا يعرف العالم مثله مثل “المرشد” الإيراني علي خامنئي وبشّار الأسد.
كان لدى فلاديمير بوتين، الذي يهيئ نفسه منذ الآن، للانتخابات الرئاسيّة للعام 2024، هاجس إثارة المشاعر القوميّة الروسية لدى شعبه. بالنسبة إليه، توفر كلّ زيارة لمسؤول أجنبي فرصة كي يظهر عظمة روسيا وتاريخها العريق. لا يعرف أن التاريخ يبقى أحداثا مرّ عليها الزمن عندما لا يتعلّم الحاكم من تجاربه. ليس صدفة أن يهيمن تمثال القيصر إسكندر الثاني على القاعة وأن يكون التمثال قبالة ماكرون. هذا ما لاحظه الباحث والأستاذ الجامعي الفرنسي فابريس بالانش الذي علق على المشهد في تغريدة له بقوله “إسكندر الثاني هو القيصر الإصلاحي الذي ألغى العبودية وحدّث روسيا، لكنه القيصر الذي قمع بالدمّ ثورة الشعب البولندي في العام 1863… تحت أنظار الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث (الملقب بنابوليون الصغير) الذي لم يتجرّأ على رفع إصبعه”. قبل ذلك، كما يذكر الباحث الفرنسي، استقبل بوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في آذار – مارس من العام 2020 في قاعة زينها تمثال للإمبراطورة كاترين الثانية. الهدف من وجود التمثال “تذكير أردوغان بأنّ تركيا لم تربح أي حرب خاضتها مع روسيا في يوم من الأيّام”.
ما الذي كان يريده بوتين، إضافة بالطبع إلى إثارة الحماسة لدى الروس وتذكيرهم بأنّ في استطاعته استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي؟ عمليا، كان يريد توسيع منطقة النفوذ الروسيّة في أراض على حدود بلده وأبعد من ذلك. نجح في تحقيق هدفه عندما استعاد شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في العام 2014، ونجح في قمع الثورة الشعبيّة التي قامت في كازاخستان قبل أشهر من غزوة أوكرانيا. نجح في إيجاد موطئ قدم لروسيا في المياه الدافئة عندما تدخل مباشرة في سوريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015 من أجل إبقاء بشار الأسد في دمشق. صارت لروسيا قواعد عسكريّة دائمة في طرطوس واللاذقيّة.
◙ كشف بوتين أنّه لا يجيد لعب أوراقه. من ورقة امتلاك السلاح النووي والصواريخ بعيدة المدى… إلى ورقة النفط والغاز. تبيّن بكل بساطة أنّه لا يعرف العالم
لا شكّ أن دولا أوروبية أعادت النظر في حساباتها، خصوصا ألمانيا، بعدما تبيّن أن بوتين جدّي في ضم أوكرانيا. كان يطمح إلى منع انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي (ناتو) والتوصل إلى تسوية ترعاها أوروبا وتوافق عليها إدارة بايدن تجعل من أوكرانيا دولة محايدة تراعي الجار الروسي إلى أبعد حدود. أراد أن تصبح أوكرانيا “دولة ذات سياسة محدودة”، كما كانت عليه دول أوروبا الشرقيّة قبل انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي. لم يعرف أنّ ذلك محظور عليه نظرا إلى أن السيطرة على أوكرانيا ستجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها مهددة.
لا شكّ أن فلاديمير بوتين كان يستطيع النجاح في حربه الأوكرانية من دون أن يخوضها. لكنه قرّر خوض تلك الحرب، علما أنّه كان عليه أن يربح يوما حربه على الفقر والتخلف في داخل روسيا نفسها. في النهاية لم تقدّم روسيا يوما أيّ خدمة لبلد أجنبي وجدت فيه باستثناء المشاركة في حرب على الشعوب التي تريد التحرر من حكام دكتاتوريين، كما الحال في سوريا. أمّا في روسيا نفسها، فشل بوتين اقتصاديا واجتماعيا على كلّ صعيد. لا تنتج روسيا برادا أو غسالة أو سيارة. كلّ ما في المنازل الروسيّة مستورد من الخارج. إلى ذلك، يعاني المجتمع الروسي من تحوله إلى مجتمع عجوز…
يهتمّ بوتين بأمور كثيرة. يهتمّ بنفسه وتلميع صورته. ليس بوتين سياسيا حاذقا بمقدار ما أنّه دكتاتور من العالم الثالث. السؤال الذي كان عليه طرحه على نفسه منذ البداية هل لدى روسيا ما تتكل عليه اقتصاديّا في المستقبل بعيد المدى غير النفط والغاز قبل التفكير في استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي… وهي أمجاد أقرب إلى الوهم من أي شيء آخر؟
العرب