العمق الاستراتيجي للمحور الإيراني – الروسي

العمق الاستراتيجي للمحور الإيراني – الروسي

يطرح بعض المحللين في واشنطن، بمن فيهم أصحاب أقلام في الصحافة، تساؤلات حول جدية العلاقة التحالفية بين إيران وروسيا، لا سيما منذ أن بدأت الأولى بإرسال أسلحة “الدرون” إلى الأخيرة لاستعمالها ضد أهداف في أوكرانيا. المستغرب أن الجهات المراقبة، خصوصاً أوساط الاستخبارات الغربية التي كان لديها تساؤلات من هذا النوع حول العلاقة بين البلدين من المفترض أن تكون على علم دقيق بالعلاقة ما بين النظام في طهران وموسكو.

ومن الواضح أن علاقة كهذه لا يمكن أن تكون غير مرئية بسبب قدرة الأجهزة الغربية على مراقبة التحركات بين البلدين على الصعيد العسكري. فوصول أسلحة “الدرون” إلى روسيا من إيران بهدف استعمالها في ساحة القتال بأوكرانيا ليس إلا مرحلة متقدمة من التعاون بين الاتحاد الروسي والجمهورية الإسلامية، فلماذا إذاً هذا التعجب من عمق العلاقة الاستراتيجية بين البلدين؟ الأمر الذي يفتح باباً آخر للتساؤل، وهو خطأ تقييم واشنطن، وفي بروكسل في ما يتعلق بقدرة “الناتو” بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، أن تؤثر في طهران عبر الاتفاق النووي. ويتوقف الموضوع على نقطتين، الأولى حول عمق هذه العلاقة ونوعيتها بين طهران وموسكو، والأخيرة في شأن “استغراب” الغرب لعلاقة كهذه.
تاريخ العلاقة
لننظر أولاً إلى جذور العلاقة بين البلدين، ومن الواضح أنها بدأت في الثمانينيات بشكل سلبي بين الثورة الإسلامية تحت قياده الخميني، وما بعدها النظام الذي أفرزته هذه الثورة كان يتناقض مع الاتحاد السوفياتي كمنظومة تتحرك تحت الحزب الشيوعي، بالتالي تتناقض بشكل عميق مع الأيديولوجية الإسلاموية لحكم الملالي في طهران. وقد حدث تصادم بين الجهتين أولاً عندما قام النظام الإيراني خلال الثمانينيات بضرب اليسار الماركسي عامة، والحزب الشيوعي “توده” بخاصة، داخل طهران. وبعض التقارير تتحدث عن سقوط أكثر من 40 ألف قتيل من الحزب على أيدي هذا النظام.

وشكل ضرب الحزب الشيوعي الإيراني عاملاً كبيراً في الأزمة بين النظام الإيراني والقيادة السوفياتية، انتقلت بدورها إلى دول أخرى، حيث كان لإيران تأثير كبير، بما فيها لبنان. فجرى صدام بين “حزب الله” واليساريين اللبنانيين المرتبطين بروسيا السوفياتية. ووصل الصراع الدموي بين الميليشيات الإيرانية والدولة السوفياتية إلى خطف أربعة دبلوماسيين سوفيات في لبنان. وتحركت موسكو بكل قوتها لتحريرهم في وقت كان فيه “حزب الله” يأخذ رهائن أميركية وغربية.

وامتدت المواجهة الخمينية اليسارية إلى أطراف تقدمية أخرى، بما فيها “مجاهدي خلق” منذ بداية الثمانينيات. إذاً، هنالك تاريخ صراع قديم بين المعسكر الخميني الديني والاتحاد السوفياتي، وكان دموياً وعميق الحقد. فماذا تحول بين المعسكرين في ما بعد؟
إيران تستوعب الأشلاء
بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي اتجه النظام في طهران إلى لملمة بعض التيارات الراديكالية التي كانت مرتبطة بموسكو، وفقدت فجأةً الداعم الأساس العالمي، وأصبحت عملياً تائهة تبحث عن ممول ودولة إقليمية تدعمها، لذلك وكما رصدت في كتابي الجديد “إيران الجمهورية الإمبريالية والسياسة الأميركية”، فإن النظام الإيراني بعد أن ضرب الحزب الشيوعي داخل البلاد سعى منذ منتصف التسعينيات إلى التواصل مع مجموعات من اليسار وأقصى اليسار لربطها باستراتيجيتها العالمية، فتقدمت السيطرة الإيرانية على أشلاء اليسار القديم، إلا أن اليسار التقليدي لم يقبل بأن يعمل لصالح النظام الإيراني، بل فقط بعض التيارات التي تم تمويلها من قبل الجمهورية الإسلامية التي استمرت في التعاون مع ورثة الاتحاد السوفياتي القديم.

حلف بوتين مع إيران

إلا أن صعود التيار القومي الروسي بقيادة الرئيس بوتين، لا سيما بعد سنوات من مرحلة ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) فتح الباب لتلاقٍ في المصالح بين موسكو وطهران، وقد تم تقاطع مصالح بين الطرفين، بخاصة عندما قامت إدارة أوباما بتشجيع التيار الإسلاموي السني من ناحية، ومن أخرى إبان مرحلة صعود حكم الرئيس بوتين القومي مع تصاعد التصادم بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني.

بدأت عملية تفاوض ولقاءات بين القيادة الروسية ونظيرتها الإيرانية، لا سيما أن نظام الأسد في سوريا سهل هذا التلاقي على أساس مصلحة مشتركة. فالأخير حليف تاريخي لروسيا، وعقائدي لإيران، بالتالي فقد لعب دوراً وسيطاً بين الطرفين تجسد في أول نتيجة، وهي انتقال القوة الروسية وعودتها إلى الساحل السوري بقوة منذ عام 2015. فما ركائز التقارب الروسي – الإيراني منذ الربيع العربي تقريباً؟

أولاً، العدو المشترك، وهو “داعش” الذي له علاقات مع مجموعات متطرفة تتواجه مع روسيا، بخاصة في القوقاز. فشعر الروس بأن طهران قد تكون “الحليف المسلم” المنطقي ضد المجموعات التي تطلق على نفسها اسم “المجموعات الجهادية”. وقد بات ذلك واضحاً أيضاً في التقاطع بين موسكو ودمشق وطهران في الساحة السورية، حيث تحالف النظام مع القوات الروسية ونظيرتها الإيرانية لمجابهة الميليشيات المتطرفة. التقاطع الثاني كان على صعيد تحدي موسكو لواشنطن، لا سيما بعد احتلال القرم وخروج بعض العقوبات الأميركية على موسكو وطهران.

من هنا، أدت وحدة الاستهداف بالعقوبات إلى تقارب شبه حلفي بين إيران وروسيا. ومع مرور الزمن بات هذا التقارب أو التقاطع يتحول إلى حلف استراتيجي بين طهران وموسكو، مع العلم أن الدولتين لهما عقائد مختلفة ومتناقضة، ما يعني أنه في مرحلة ما بعد مواجهة مع الغرب قد تكون هنالك مواجهة بين البلدين، ولكن حتى الوصول إلى تلك المرحلة المستقبلية، وجدت إيران وروسيا مصلحة جيوسياسية لمواجهة خطر مشترك. وتلاقت مصالح طهران وموسكو أيضاً في أفغانستان، حيث دعمت الأولى الفصائل الشمالية الموجودة في المناطق الشيعية بوجه “طالبان”. ووجد الطرفان حليفاً ثالثاً، وهو الجبار الصيني الذي دعم روسيا من ناحية، لا سيما بعد انطلاقة الحرب الأوكرانية. وأيضاً وقع معاهدة رسمية استراتيجية مع إيران لمساعدتها.

نتائج التحالف الإيراني – الروسي

روسيا تكسب إيران كدولة شرق أوسطية عظمى بمساحة كبيرة وبموقع استراتيجي مميز على الخليج والمحيط الهندي، وتتمكن روسيا عبر هذا التحالف من أن تصل إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي عبر ممرات بحر قزوين والتواصل مع محافظات روسيا المحلية وجمهورية أرمينيا، ولكن سيطرة طهران على العراق وسوريا ولبنان واليمن تعطي موسكو قدرة على التواصل في الشرق الأوسط مع جهات متعددة، مما يعزز وجودها على الساحل السوري – اللبناني من ناحية، ونظرياً على الساحل اليمني من ناحية أخرى يوماً ما.
حدود روسيا مع إيران
إلا أن لروسيا حدوداً في دعم إيران، وهي عدم الانزلاق في مواجهة خصوم إيران العرب والمسلمين، لا سيما الإمارات والسعودية ومصر، فهي معها ضد الجماعات المتطرفة وبمواجهة الغرب وأميركا، ولكن لن تدعمها في مخاصمة أطراف بالمنطقة تستفيد منها، بالتالي فإن الأولى تشجع الأخيرة لتخفف من حدتها ضد هذه الأطراف الخليجية والأفريقية وتدعمها عندما تتواجه مع المنظمات المتطرفة من ناحية، ومع الغرب من ناحية أخرى.

فشل الغرب

لماذا إذاً فشل الغرب في فهم عمق التحالف الإيراني – الروسي منذ 2015 على الأقل؟ لأنه يبدو ومنذ 2009 أن إدارة أوباما وجهت أجهزتها لمحاولة إقناع إيران بأن الشراكة مع إدارة أوباما أفضل. إلا أن طهران عقدت صفقتين، إحداهما مع واشنطن، والأخرى مع موسكو. وقد ضغط اللوبي الإيراني في واشنطن، وخصوصاً لوبي الاتفاق النووي، على السياسيين الأميركيين لإقناعهم بأنه بمجرد فتح الأبواب أمام إيران في الغرب ستغلق نظيرتها مع روسيا، وهنا كان الخطأ الفادح. فواشنطن لم تفهم أن لاعب الشطرنج الماهر، أي إيران، استفاد من الطرف الروسي الذي مده بقدرات وحصل على أفضل مساعدات، بما فيها العسكرية والاستخباراتية، كما حصل على كميات كبيرة من السيولة بفضل الاتفاق النووي الإيراني.
وعندما جاء يوم الحسم في الخيار، لا سيما بعد حرب أوكرانيا، كشفت إيران للعالم أجمع والغرب بشكل خاص، بما فيها إدارة بايدن، عن أنه إذا كان هناك من قرار لحسم بين القوتين العالميتين، فإن طهران ستختار موسكو، وليس واشنطن.

ضباب أميركي

ضباب كهذا تعبر عنه أصوات كثيرة في الأوساط الاستخباراتية والسياسة الخارجية في واشنطن، وتنقلها الصحافة المؤيدة لبايدن، فإذ يواجه الغرب اليوم تحدياً كبيراً في أوكرانيا ظن شركاء الاتفاق النووي الغربيون أن إيران ستقف على الأقل “على الحياد” إن لم تساعد في التقارب بين الغرب وروسيا. إلا أن طهران وقفت بشكل مباشر مع موسكو إلى حد إرسال الصواريخ إليها لتستعملها في أوكرانيا.

الصورة الأخطر

ويبدو، بحسب تحليلنا، أن عملية “الدرون” الإيرانية إلى أوكرانيا أكبر مما يظنه المراقبون، بتقديرنا أن روسيا ستستعمل واقع إرسال طهران هذه الأسلحة الفتاكة لمساعدتها في أوكرانيا لتقول للعالم إن إيران صديقة لها، وقد وقفت معها في وقت المحن، رداً على ذلك قد تعلن القيادة الروسية علاقة استراتيجية خاصة مع إيران، بالتالي قد تعلن نشر أسلحة روسية داخل طهران، ومنها أسلحة استراتيجية مضادة للطائرات. وهنالك احتمال إذا اشتدت الضغوط على الجمهورية الإسلامية أن تضع روسيا بتصرفها وحدات بالأسلحة الاستراتيجية على الأراضي الإيرانية لردع واشنطن وإسرائيل معاً، بما فيها أسلحة تكتيكية نووية مما سيقلب ميزان القوى بشكل خطير إذا حصل.

اندبندت عربي