من الممكن أن يشكل الحدث الذي ترعاه فرنسا نقطة انطلاق مرحب بها لقيام تعاون أوسع بين الحكومة العراقية الجديدة والدول العربية المجاورة – ولا سيما الأردن – إلّا أن الوقت وحده هو الذي سيحدد ما إذا كانت الاتفاقات التي سيتم التوصل إليها هناك ستؤتي ثمارها.
في 7 كانون الأول/ديسمبر، أعلن الأردن أنه سيستضيف النسخة الثانية من “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، حيث ستجمع القمة المقرر انعقادها في العشرين من هذا الشهر العديد من قادة المنطقة بالإضافة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وممثلين عن “الاتحاد الأوروبي” والأمم المتحدة والجامعة العربية و«مجلس التعاون الخليجي» و”منظمة التعاون الإسلامي”. وفي حين يأتي هذا الاجتماع الرفيع المستوى بعد مرور أكثر من عام بقليل على انعقاد مؤتمر بغداد الأول، إلّا أن تغير مكان عقد المؤتمر والقيادة السياسية والسياق الإقليمي تكشف الكثير عن المصالح المتغيرة للجهة المنظّمة.
أوجه الاختلاف عن المؤتمر الأول
عُقد المؤتمر الأول، الذي نظمته فرنسا وبغداد بصورة مشتركة، خلال شهر آب/أغسطس 2021 في العراق بهدف تعزيز الدعم الإقليمي للبلد المحاصَر. وفيما يتخطى البيان الختامي الذي كان توافقياً نوعاً ما، فإن مجرد جمع هذا العدد الكبير من الأطراف المتناحرة في الغرفة نفسها اعتُبر نجاحاً دبلوماسياً، مع قائمة الضيوف التي ضمّت رئيس مصر، وأمير قطر، ورئيس وزراء دولة الإمارات، ووزراء خارجية إيران وتركيا والسعودية. وبالفعل، فقد وفرت الصيغة إحدى التجمعات النادرة القادرة على الجمع بين إيران والدول العربية.
وساعد المنطق الذي قامت عليه هذه المبادرة في تفسير صيغتها الفريدة ونسبة المشاركة فيها. فقد تبيّن أن التركيز الصارم على دعم العراق في تلك الفترة المشحونة – عندما احتاجت بغداد لإعادة تأكيد الدعم الإقليمي في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، ووسط موسم الانتخابات النيابية الأولى في العراق بعد أشهر من الاحتجاجات والاضطرابات السياسية – كان محط إجماع وتوافق. ومع ذلك، فإن الهدف الرئيسي الآخر للحدث – أي الترويج لعراقٍ تتعاون فيه الدول المتخاصمة بدلاً من أن يكون هدفاً للتدخل – لم يتحقق بعد.
ومنذ ذلك الحين، اهتزت الظروف السياسية في العراق من جديد، وظهرت أزمات أخرى داخل المنطقة وخارجها، مما أثار العديد من التحديات أمام منظّمي المؤتمر الحالي. واليوم، ستهدف باريس وبغداد ودولة الأردن المضيفة الجديدة (انظر أدناه)، إلى البناء على نجاح المؤتمر الأول من خلال زيادة عدد القضايا المدرجة على جدول الأعمال ومحاولة إطلاق تعاون إقليمي ملموس في مجموعة متنوعة من القطاعات، من بينها الطاقة – وإن كان ذلك مع إبقاء محور الموضوع الرئيسي منصبّاً على العراق. ومن غير الواضح ما إذا كانت ستتم مناقشة قضية مكافحة الإرهاب هذه المرة، لا سيما بالنظر إلى التفسيرات المختلفة للمصطلح من قبل الحكومات المشاركة والحساسية الحالية للموضوع.
وسيشكل الحفاظ على نفس المستوى من التمثيل في المؤتمر الثاني تحدياً أيضاً. وبالإضافة إلى المشاركين الأصليين، تشمل قائمة الضيوف الحالية ممثلين من عُمان والبحرين، على الرغم من أنه قد يتم تخفيض مستوى بعض الوفود. كما سيحضر مراقبون من دول “مجموعة العشرين” ودول “الاتحاد الأوروبي”.
انفراج أردني عراقي
يعكس قرار عقد المؤتمر في عمّان توسعاً أكبر في علاقات المملكة الهاشمية مع العراق – وحساباتها تجاهه. ومن منظور أمني، يسعى الأردن إلى إبعاد العناصر الجهادية ووكلاء إيران المسلحين والتهديدات الأخرى عن حدوده الشرقية. ومن الناحية الدبلوماسية، يريد الأردن الحفاظ على الانفراج الذي توصل إليه مع رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، الذي حسّن العلاقات الثنائية بشكل كبير بعد سنوات تراوحت فيها العلاقات بين الفتور والعدائية في مرحلة ما بعد صدام حسين. واستثمرت عمان قدراً كبيراً من رأس المال السياسي في دعم الكاظمي، كما تم تنظيم عدد من المنتديات المتعددة الأطراف خلال فترة ولايته، من “مؤتمر بغداد” إلى الاجتماعات المستمرة رفيعة المستوى للمملكة مع العراق ومصر.
وأثارت استقالة الكاظمي المبكرة قلق المسؤولين الأردنيين، لا سيما وأنهم لم يكونوا على معرفة جيدة بخليفته محمد شياع السوداني. ومع ذلك، كانت عمّان هي وجهة أول رحلة خارجية يقوم بها السوداني بعد توليه رئاسة الحكومة، مما أدى إلى تهدئة بعض مخاوف المسؤولين وصوّر مؤتمر بغداد كفرصة للبناء على هذا الزخم. فالاستمرارية مهمة بالنسبة للأردن، ويبدو السوداني مستعداً لتلبية هذا الطلب. كما تعزز علاقات التعاون المتعددة الأطراف مع العراق صورة المملكة كجهة إقليمية بنّاءة وفاعلة في تنظيم الاجتماعات.
ويقيناً، أن نهج عمان تجاه العراق يتلخص في هدف أساسي واحد، هو تحسين الاقتصاد الأردني. فقد عانت المملكة من سلسلة من الانتكاسات الاقتصادية بسبب التطورات الإقليمية على مدى العقدين الماضيين، من إسقاط نظام صدام حسين في العراق إلى “الربيع العربي”، والحرب الأهلية السورية، ووباء فيروس كورونا. ويُعتبر تعميق العلاقات مع العراق أحد السبل الكفيلة بالتعافي من هذه النكسات، مما دفع عمّان إلى توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية والمتعددة الأطراف مع بغداد على مدى السنوات الأخيرة – على الرغم من أن هذه الاتفاقيات لا تزال في مراحل متفاوتة من الاكتمال. ويسعى الأردن على وجه الخصوص إلى الحصول على نفط موثوق ورخيص، وذلك جزئياً من خلال عرض نفسه كطريق عبور للنفط الخام العراقي في البحر الأحمر عبر خط أنابيب مخطط له بين البصرة والعقبة. كما أطلق البلدان أيضاً مشروعاً لربط شبكتيهما الكهربائية في تشرين الأول/أكتوبر. وينظر الأردن بشكل متزايد إلى العراق كسوق تصدير أيضاً.
السوداني على خطى الكاظمي؟
من وجهة نظر بغداد، يوفر المؤتمر فرصاً كبيرة للسوداني على الصعيدين الإقليمي والدولي. ويُنظر إلى العلاقة الوطيدة بين حكومته والجهات الموالية لإيران بعدم الثقة في الغرب وبين بعض الدول المجاورة، لذا فإن المشاركة في حدث إيجابي متعدد الأطراف هي إحدى السبل لطمأنة الجهات الخارجية الداعمة. وقد يراها السوداني أيضاً مناسبة لبناء إجماع مع الجيران العرب حول العلاقات الاقتصادية والتعاون الأمني وغير ذلك. ويعدّ هذا الحدث نموذجاً مؤثراً بشكل خاص للتواصل مع دول الخليج، التي تخشى التهديدات التي تشكلها الميليشيات المدعومة من إيران في العراق ولكنها تأمل أيضاً في الاستفادة من الفرص الاستثمارية الكثيرة في البلاد. ولا تعترض طهران على مشاركة السوداني في المؤتمر، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الحكومة العراقية المعزولة دولياً لا تخدم المصالح الإيرانية.
وحتى الآن، كانت أجواء الحدث مشوقة إلى حدٍّ ما، الأمر الذي قد يكون مفيداً للسوداني نظراً لقلة خبرته في السياسة الخارجية. كما تقدم مثالاً مبكراً على عمل السوداني على إدامة إرث الكاظمي، الذي كانت شخصيته وإنجازاته في السياسة الخارجية موضع تقدير كبير من فرنسا والأردن على حدٍ سواء. وعلى نطاق أوسع، فإن تكرار المؤتمر، على الرغم من التغيير في القيادة، يتوافق بشكل جيد مع فكرة بناء الجسور مع الدولة العراقية بغض النظر عمّن يترأسها.
مساهمة فرنسا في الاستقرار الإقليمي
لعب العراق دوراً محورياً في سياسة الرئيس ماكرون في الشرق الأوسط. فقد قدّمت فرنسا الدعم الدبلوماسي والإنساني لبغداد خلال الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، ناهيك عن مساعدات عسكرية وافرة باعتبارها ثاني أكبر مساهم في عملية “العزم الصلب” و”بعثة الناتو في العراق”. وبعد الهزيمة العسكرية لـ «داعش»، شاركت باريس في مساعي تحقيق الاستقرار بقيمة فاقت الستين مليون يورو منذ عام 2017.
ومن وجهة نظر فرنسا، تُعد قمة بغداد 2021 وقمة عمّان هذا العام جزءاً من نهجها القائم على “دبلوماسية المؤتمرات” والذي يشدد على الدور القيّم لهذه الفعاليات في تعزيز الاستقرار في المنطقة والعلاقات بين القادة. وبالنظر إلى أن العراق يشكل نقطة التقاء رئيسية للجهات الإقليمية النافذة مثل إيران والسعودية وتركيا، يرى المسؤولون الفرنسيون أنه أفضل نقطة انطلاق لتخفيف التوترات في دول الجوار (على سبيل المثال، تشهد حالياً علاقات بغداد مع أنقرة مرحلة غير مستقرة ويمكن أن تستفيد من بلسم دبلوماسي). فضلاً عن ذلك، يعتبر العراق سياقاً مثالياً لإظهار كيف يمكن للتحديات الدولية مثل الاحتباس الحراري أن تؤثر على الشرق الأوسط.
ومن هذا المنطلق، روّجت باريس لصيغة المؤتمر الجامعة وصوّرته كبداية مسعى ديناميكي طويل الأجل موجه نحو مواجهة التحديات العالمية على الصعيد الإقليمي – ليس فقط تغير المناخ، ولكن أيضاً الأمن الغذائي، والتصحر، وأمن الطاقة، وحالات الطوارئ الصحية العامة، والكوارث الطبيعية والصناعية، وأكثر من ذلك. وظهرت إشارة أخرى على أهمية الصيغة بالنسبة إلى فرنسا في وقت سابق من هذا الشهر عندما ورد اسم “مؤتمر بغداد” بين المواضيع الشرق أوسطية القليلة التي تطرق إليها البيان المشترك الصادر بعد لقاء ماكرون مع الرئيس بايدن في واشنطن.
موافقة الولايات المتحدة حتى الآن
في عام 2021، رحّب البيت الأبيض بمؤتمر بغداد باعتباره “قمة إقليمية ناجحة وفريدة من نوعها”. وبالفعل، يبدو أن واضعي السياسات الأمريكيين راضون عن مضمون وصيغة كلا الحدثين، اللذين يحققان هدفاً شاملاً لكل من واشنطن وباريس، ألا وهو تشجيع العراق على الانخراط بصورة أكثر مع الدول العربية المجاورة.
لويس دوجيت-جروس
معهد واشنطن