بعد أزيد من ثلاثمئة يوم على بدء حرب الغزو الروسية على الأراضي الأوكرانية، وفي وقت ليس هناك من مؤشرات جدية عن أي تهدئة في الميدان ناهيك من إيقاف الحرب نفسها، جاءت زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن، والكلمة التي ألقاها أمام الكونغرس الأمريكي لتشكل حدثاً متعدد الأبعاد. فزيلينسكي يجازف أولاً برحلة جوية في عز الحرب، ذهاباً وعودة، وهذا يفيد بشكل أو بآخر أن الدولة الأوكرانية استعادت جزءاً أساسياً من سيادتها الجوية في مقابل تصدع وترنح آلة الحرب الروسية. هذه الرحلة كانت محفوفة بمخاطر أكبر بكثير قبل شهرين أو ثلاثة من دون أن يلغي ذلك منسوب المخاطرة، الذي يضيف إلى زيلينسكي شعبية داخل وخارج بلاده. هذا في مقابل رئيس روسي لم يفكر لا بالتوجه إلى خط الجبهة، ولا إلى الأقاليم التي أعلن عن ضمها قبل شهرين إلى بلاده، ولا الى شبه جزيرة القرم التي سبق أن ضمها عام 2014.
اختار زيلينسكي أن تكون رحلته الأولى إلى الغرب لا إلى برلين ولا باريس أو لندن. وقد ذهبت التحليلات هنا في اتجاهات شتى. فالحاجة الأوكرانية الأساسية هي بطاريات صواريخ الباتريوت والأنظمة الدفاعية الجوية والقنابل الدقيقة الموجهة للطائرات المقاتلة، وإشباع هذه الحاجة بوابته الأساسية واشنطن، حيث شدد زيلينسكي على أهمية هذا الدعم العسكري الأمريكي، وأنه غير كاف ومطلوب المزيد، وأنه استثمار مشترك. في الوقت نفسه، تقديم أمريكا على أوروبا في وجهة هذه الزيارة المحورية يغمز شئنا أو أبينا من قناة «القارة العجوز». فبلدان الأخيرة تستقبل الملايين من اللاجئين، وبعضها، مثل بولندا، منخرط بشكل عضوي في دعم الأوكران، وخط الإمداد الأساسي للسلاح والذخيرة والمتطوعين يمر من خلال بولندا. لكن الحاجة الى الغاز الروسي، والقلق من تمدد الحرب وآثارها المباشرة على المجتمعات المجاورة كلما طالت، يجعل موقع الأوروبيين مختلفاً عن موقع الأمريكيين البعيدين.
في المقابل، يأتي إيثار الرئيس الفرنسي الحديث عن آفاق إنهاء الحرب والضمانات التي ينبغي أن تعطى لموسكو، بالتزامن مع كلمة زيلينسكي أمام الكونغرس، ليزيد من حفيظة الأوكران تجاه الرئيس الفرنسي.
في ضوء المعطيات الحالية، يبدو ماكرون نوعا ما في عجلة من أمره، يستشرف ما بعد نزاع ليس هناك ما يشي أنه يقترب من وقته المستقطع. وزيارة زيلينسكي يمكن احتسابها بشكل رمزي كمطلع فصل جديد في هذا النزاع، يزداد فيه مستوى الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وتتواصل فيه الهجمات الروسية على المنشآت التحتية ويدخل فيه القتال من الدونباس الى خرسون مرحلة استنزاف مريرة، ويحل فيه الشتاء بفاتورة تدفئة متصاعدة وقلق حول البدائل عن الغاز الروسي في أوروبا، هذا فيما يزداد التوجس من أزمة غذاء عالمية أيضاً نتيجة تفاقم كل هذه الأوضاع. وروسيا التي تعثر جيشها وظهرت هشاشة قطاعاته الواحدة بعد الأخرى، تدرك في الوقت نفسه أن وقف الحرب سيعني نقل المشكلة الى داخلها، والى داخل مجتمعها وداخل نظامها، ولهذا بات إعلامه يضرب آجالاً لهذه الحرب بعدد من السنوات المقبلة.
كذلك تتصادف زيارة زيلينسكي مع اقتراب المناورات الصينية الروسية المشتركة في بحر الصين الشرقي، لتظهر بشكل أو بآخر، صعوبة فصل الصراع بين أمريكا وروسيا عن الصراع بينها وبين الصين، رغم الموقف الضبابي الذي اتخذته الصين الى الآن في المسألة الأوكرانية. هي زيارة تعكس بوضوح زيادة حدة الاستقطاب على الصعيد العالمي، وكون روسيا هي الحلقة الأضعف في هذا الاستقطاب حالياً. لكن هل تبقى هذه الحال؟
القدس العربي