احتاج التوصل إلى اتفاق على انتخاب الرئيس اللبناني السابق ميشال عون إلى 29 شهرا من الفراغ الرئاسي، ما يجعل الفراغ الراهن، الذي دخل شهره الثالث، طفيفا بالمقارنة مع ما حصل في السابق.
والفارق الأهم هو أن لبنان اليوم يقف على حافة الإفلاس. والافتراض القائل إن انتخاب الرئيس سوف يفتح بابا للخروج من الأزمة غير واقعي، لأن الأزمة باتت أكبر من هذا الباب من ناحية حجمها المالي، كما أنها أكبر من ناحية حجمها السياسي. وهو ما يدفع البعض إلى البحث عن حلول “من خارج الصندوق”.
ماليا، لا يوجد مخرج من مسار الإفلاس الراهن، حتى ولو تم إنشاء “صندوق سيادي لإدارة أصول الدولة”، وهي الفكرة التي يتداولها بعض النواب والمسؤولين السابقين.
أما سياسيا، فإن حزمة الإنقاذ التي يعرضها صندوق النقد الدولي، إذا كانت مشروطة بالإصلاحات، فإنها تتطلب توافقات سياسية، وهذه لا تتوفر لها أرضية من الأساس.
الإفلاس يعني تلقائيا انهيار سعر الليرة إلى ما يعادل إجمالي الكتلة النقدية في موازاة إجمالي موجودات الدولة
هذا الوضع ينعكس على مساعي انتخاب الرئيس نفسه. فالتوافقات الغائبة عن هذا الباب تجعل الحديث عن تنفيذ إصلاحات مجرد أوهام لا يصدقها أحد من الأساس.
وما يزال لدى مصرف لبنان بعض المال لكي تنفقه الحكومة ريثما تعثر على حلول من خارج “صندوق التفكير” ومن خارج “الصندوق الدولي”، وذلك لتأكيد الرغبة في الهرب من الإصلاحات.
ويقول أحد الخيارات التي يجري تداولها في بيروت بإمكانية إنشاء “صندوق سيادي” لإدارة أصول الدولة من جانب هيئة مستقلة للقطاع الخاص، أي غير الحكومة وغير المصرف المركزي، بحيث يجري استثمار هذه الأصول، الأمر الذي سوف يؤدي إلى رفع قيمتها من جهة، ويوفر عائدات من جهة أخرى.
ولا تشمل هذه الأصول الأموال السائلة التي يتصرف بها المصرف المركزي لخدمة الإنفاق الحكومي، ولكنها تشمل الذهب الذي تبلغ قيمته نحو 17 مليار دولار عن أصول تقدر بنحو 286 طنا، ونحو 4 مليارات دولار من الأوراق المالية المملوكة للمصرف (مثل سندات اليورو)، وأراضي وعقارات الدولة التي تقدر قيمتها بما يتراوح بين 120 و200 مليار دولار.
وفي الواقع، فإن الحديث عن عقارات الدولة ليس جديدا ولا هو موضع تداولات هامشية، إذ أن القرار رقم 1 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ الحادي والعشرين أكتوبر 2019 نَص في البند الخامس منه على “تكليف وزارة المالية بإجراء جرد بكافة العقارات التي تملكها الدولة وتقييمها وتقديم اقتراح للاستفادة منها”.
وقيمة هذه العقارات موضع جدل ككل شيء آخر. ولكن إحصاءات الحصر العقاري تقول إن مساحة العقارات التي تمتلكها الدولة تبلغ مليارا و200 مليون متر مربع. وبحسب تقديرات وزارة المالية في عهد الوزير السابق علي حسن خليل فإن قيمتها تبلغ نحو 100 دولار للمتر المربع، ما يجعل قيمتها الإجمالية تبلغ نحو 120 مليار دولار.
ما يهم في هذه التقديرات هو أن هذه الأصول “كافية لإعادة أموال كل المودعين وتعويض كل الخسائر المصرفية” التي تبلغ نحو 90 مليار دولار. ولكي لا تبدو الدولة وكأنها تتخلى عن هذه الأصول، فإن نظاما ما للتعويض يمكن أن ينشأ من خلال استثمار هذه الأصول وليس بيعها بالضرورة.
هذا الحل يعني أن الدولة في لبنان ليست مفلسة. كما أنه يعني أنها في غنى عن حزمة صندوق النقد الدولي وإصلاحاته.
والمدافعون الرئيسيون عن هذا “الحل” هم أهل النظام بالدرجة الأولى، فضلا عن كبار المودعين، لأنه يُعيد لهم أموالهم، ويمنح الحكومة فسحة أوسع لبقاء الأحوال كما هي، والسماح لها من بعد ذلك بالانتظار حتى يتم البدء بتصدير الغاز من حقل قانا، فتوفر عائداته ما يكفي لاستعادة النظام السياسي الراهن قدرته على البقاء من دون تهديدات “إصلاحية” أو شروط خارجية.
ولكن الحقيقة ليست “ناصعة” بهذا القدر. أولا، لأن إدارة الأصول لكي تحقق الغاية منها يجب أن تخرج كليا من هيمنة الأيدي التي صنعت الأزمة، وإلا فإن الأموال سوف تُستهلك كما استهلك أكثر منها على امتداد السنوات الثلاثين الماضية.
وثانيا، لأن العائدات المنتظرة منها ليست كبيرة بما يكفي لكي تعوض الديون التي يطالب الصندوق الدولي بشطبها لكل إيداع يتجاوز 100 ألف دولار. فحتى لو كانت قيمة الأصول تبلغ حدها الأقصى، فإنها سوف تتطلب ما يتراوح بين 10 و20 عاما لكي يمكنها أن تسدد حجم الخسائر، لاسيما وأنها ليست أصولا سائلة يمكن استثمارها كما هي الأصول المالية التي تملكها الصناديق السيادية الأخرى.
وثالثا، لأن هذه الأصول “ملكية عامة” وليست ملكية خاصة تستطيع “دولة” خاضعة لأحزاب الهيمنة أن تتحكم بها كما تشاء. وقد جرت العادة أن تستخدم الدول أصولها لأغراض الاستثمار في برامج تنمية محلية معلنة، وليس في برامج “استثمارية” تخضع لتقديرات شركات خاصة، ولا علاقة لها ببرامج التنمية الحكومية. فالكثير من الأصول، من الأراضي العامة على سبيل المثال، يمكن أن تعني مدارس ومستشفيات وطرقات ومنشآت إنتاجية، مما يتعلق بتطوير البنية التحتية التي لا تنتظر “أرباحا” مباشرة ولا يستطيع القطاع الخاص أن يقوم بها.
وبحسب هذه الخطة، يعود الإفلاس بعد “الخروج من الصندوق” ليكون إفلاسا. وبينما تنفق الحكومة على الرواتب والدعم المحدود نحو 500 مليون دولار في الشهر، فإن موجودات المصرف المركزي من النقد لا تكفي لتسديد تكاليف عشرين شهرا في الحد الأقصى، وذلك إذا ما بقي كل شيء على حاله.
وسوف يعني الإفلاس تلقائيا انهيار سعر الليرة إلى ما يقرب من الصفر، أو ما يعادل إجمالي الكتلة النقدية في موازاة إجمالي موجودات الدولة غير القابلة للتصرف، بعد نضوب المال السائل، الأمر الذي يجعل الليرة اللبنانية شيئا “غير قابل للتصريف”.
ويذهب رهان آخر للتفكير “خارج الصندوق” إلى القول إن لبنان يمكن أن يعلن إفلاسه، بحيث تصبح كل ديونه الخارجية والداخلية صفرا. وهذا ما قد يُجبر صندوق النقد الدولي على أن يهرع ليتفاوض لوضع برنامج مالي إلى حين استقامة وضع البلاد. وهو ما قد يمكن لبنان من الحصول على قروض واستثمارات جديدة.
هذا الرهان يتجنب الإصلاحات أيضا. وهو يعني أنه بدلا من معالجة الأسباب التي تدفع إلى الإفلاس، أو القيام بإصلاحات تحول دونه، فإن هذا الخيار يقبل بالإفلاس على أنه أمر واقع، ما يجبر الآخرين على التقدم لتقديم المساعدة.
ولا يأخذ هذا الخيار بنظر الاعتبار عواقب الإفلاس الاجتماعية ولا الاقتصادية التي تعتمد على دولة قادرة على حماية علاقاتها الاقتصادية، أو حماية الثقة بجدارتها على أن تنفق الأموال في الاتجاه الصحيح كما تفعل الدول الأخرى.
ويبرز خيار آخر هو “دولرة الاقتصاد”، وهو خيار لا يتطلب إصلاحات. وهو يعني القبول بإفلاس الليرة. وفي حين يقوم اللبنانيون في الخارج بتحويلات تبلغ نحو 6 مليارات دولار سنويا، فإن إلغاء الديون مع تسييل بعض الأصول لموازاة الإنفاق بالدولار الحقيقي وليس بأسعار صرف وهمية، سوف يسمح للحكومة أن تعمل بضغوط أقل.
وكل ما يهم هذه الرهانات هو القول إن الإصلاحات ليست شرطا لا مفر منه، وإن الفراغ الرئاسي الذي دام 29 شهرا قبل تنصيب عون، يمكن أن ينتظر 29 شهرا قبل تنصيب مَنْ يراه حزب الله.
العرب