تحاول الدول الأوروبية الوصول إلى صيغة معتدلة للعودة لمفاوضات البرنامج النووي الإيراني وإيجاد صيغ فعالة تؤدي إلى إقناع الطرفين الأمريكي والإيراني بالعدول عن بعض شروطهما أو القبول بمبادرة أوروبية تنصف جميع أطراف الحوار، وهذا ما قام به مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل ولكنه لم يفلح في الوصول إلى اتفاق شامل او القبول ببعض الطروحات والمبادرات التي تسعى إلى تضيق حالة الاختلاف وتوسيع مدارات الاتفاق لإنهاء هذا الملف الذي دام عدة سنوات دون التوصل إلى نتائج إيجابية.
يعود أسباب هذا التعنت بين واشنطن وطهران إلى نقاط رئيسية يمكن النظر إليها من زاوية سياسية تسعى إليها الإدارة الأمريكية في حالة التعثر بإجراء الجولة العاشرة من المفاوضات باعتماد مبدأ الانسحاب من الحوار واتخاذ إجراءات اقتصادية عقابية أكثر شمولية وتشديد الرقابة للوكالة الدولية للطاقة الذرية على جميع أنشطة إيران النووية والسعي إلى تغيير النظام السياسي الإيراني بتقديم الدعم والمساندة لقوى المعارضة الإيرانية وتوسيع دائرة الاهتمام الدولي والإقليمي بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في منتصف شهر أيلول عام 2022 ، ولكن وبسبب الآراء السياسية في الإدارة الأمريكية وتحديدا في الأوساط القريبة من الرئيس جو بايدن الذين يرون أن عملية اسقاط النظام الإيراني من الممكن أن يشكل أزمة سياسية ويخلق مشاكل عديدة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وهي لا تتحمل أي إضطرابات او أزمات قد تصل إلى حد المواجهة العسكرية لأنها تؤثر على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية لدى حلفائها وشركائها وتؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة وضعف في عملية تصدير النفط والغاز في هذه المنطقة الحيوية من العالم وهذا سيؤثر بشكل فعال على توجهات وسياسة الرئيس الأمريكي في معالجة الآثار الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية وحاجة الدول الاوربية للطاقة وتحسبا لاستخدام الاحتياط النفطي من قبل واشنطن وهذا سيكون له آثار كبيرة على سوق النفط العالمية.
ترى هذه الأوساط أن بديل هذا التوجه أن تعمل أطراف الحوار في الاتفاق النووي على مسايرة إيران للتوقيع على اتفاق مشترك يتضمن القبول بمعظم الشروط الإيرانية والعودة لاتفاق 2015 واعتماد صيغة دبلوماسية تبتعد عن المواجهة العسكرية مع النظام الإيراني مقابل الوصول إلى حلول تضمن قبول طهران إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على عمليات تخزين اليورانيوم المخصب وتخفيض نسبة المخصب منه إلى 20% بعد أن ارتفع خزين اليورانيوم المخصب في عهد الرئيس بايدن إلى 4000 كغم منها 55 كغم بنسبة 60 % مع بقاء مبدأ العقوبات الاقتصادية الأمريكية واستمرار العمل الاستخباري السري في حالة الرفض والتعنت الإيراني .
ان هذه الآراء والمواقف تتابع من قبل المسؤولين الإيرانيين والذين يرون أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أكثر ضعفا وتخشى حدوث أزمة كبيرة بعدم التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي وهذا ما يتم تداوله في أوساط المحافظين المتشددين من رجال الدين وبعض قيادات الحرس الثوري وقيادة فيلق القدس الرافضين للأراء الإيرانية التي تدعو لاتفاق جديد وترى فيه ضياع لحقوق الدولة الإيرانية مالم يتم الحصول على ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مجددا والاحتفاظ بمزايا وادوات التقدم العلمي الذي حققه العلماء الإيرانيين وعدم التخلي عنه والوصول إلى أهداف وغايات تتعلق بتعزيز دور إيران ووجودها ونفوذها في المنطقة العربية والمحيط الإقليمي والرفع الفوري للعقوبات الاقتصادية دون أي تجزئة او عبر مراحل عديدة للتغلب على الأوضاع الداخلية والحد من التظاهرات الشعبية ورفع المستوى المعاشي الاقتصادي للشعوب الإيرانية المنتفضة بهدف الإبقاء على النظام السياسي بعد أن أدركت أن الإدارة الأمريكية وعلى لسان المبعوث الأمريكي للملف الإيراني روبرت مالي(ان حكومته لا تريد إسقاط النظام ولكنها تتعاطف مع المتظاهرين ) وهذه أحد الأسباب الرئيسية التي يتمسك بها النظام الإيراني ويرى فيها عدم مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية والتشكيك بتهديداتها بشأن الهجوم العسكري على منشآتها النووية واستهداف منظومتها العسكرية والأمنية التي هي القوة الرئيسية التي تحمي النظام القائم، وهذا ما يجعلها تستمر في سياسية التلاعب بالوقت والتعنت وعدم الاستجابة لكل النداءات الدولية التي تسعى للحوار بخصوص البرنامج النووي وإيقاف عمليات القمع والاضطهاد والتعسف ضد أبناء الشعوب الإيرانية في انتفاضتهم الجماهيرية في عموم المدن والأقاليم الإيرانية واستمرار سياسية النفوذ والتمدد في العديد من العواصم العربية وأحداث الاضطرابات والمشاكل السياسية التي تخدم المشروع الإيراني.
ستبقى الأوضاع المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني والخطط والمبادرات المستمرة لعقد الجولة العاشرة قائمة طالما اعتمدت الولايات المتحدة سياسة التراضي والتواطئ من أجل مصلحتها وطالما بقيت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تعتقد أن أيران قد تغيير سياستها بما يتوافق وسياسة واشنطن في المنطقة، رغم اتباع النظام الإيراني لسياسة المساومة والتسويف والمماطلة في استجابته للحلول الغربية معتقدا انه بإمكانه توظيف الحالة الروسية الأوكرانية لصالحه بتعزيز علاقته مع روسيا التي بدأت تنادي بالعودة إلى اتفاق عام 2015 وان يراعى فيه مصالح جميع الشركاء الدوليين ولا يكون مفصلا لخدمة أهداف ومصالح واشنطن وأوروبا على حساب الصين وروسيا .
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية