أحدثت زيارة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية(رافائيل غروسي) إلى إيران في الثالث من آذار 2023 العديد من التساؤلات والأسباب التي أدت إلى قيام النظام الإيراني بالتعاون وابداء المرونة التي افتقدها طيلة الأعوام الماضية رافضا جميع المبادرات الأوربية وشروط الإدارة الأمريكية والتعليمات التي تتبناها الوكالة الدولية في بياناتها المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني ، التغيير جاء بعد ادراك القيادة الإيرانية بأنها أصبحت الآن أكثر حاجة لمعالجة الأزمات الاقتصادية وسوء الأحوال المعيشية وارتفاع نسبة التضخم وانهيار العملة المحلية والابتعاد عن سياسة التعنت والتسويف والمماطلة التي لم تحقق لها إلا الابتعاد الدولي والإقليمي والمقاطعة السياسية ومزيد من العقوبات الاقتصادية التي كانت لها الأثر البالغ على المنظومة الحاكمة في إيران وهددت تواجدها واستمرارها مع بدأ الانتفاضة الجماهيرية التي قام بها طلائع أبناء الشعوب الإيرانية.
هذا الموقف خالف الكثير من الآراء التي كانت تتحدث في أروقة النظام الإيراني وأهمها التقرير الذي أعده سعيد جليلي امين عام المجلس الأعلى للامن القومي وقدمت للمرشد علي خامنئي ب(200) صفحة أوضح فيها موقفه الرافض من استمرار مفاوضات البرنامج النووي والمساعي لإحياء اتفاق عام 2015 قائلا: إن المفاوضات التي يقودها علي باقري لا تخدم المصالح الإيرانية، وكذلك الموقف الذي أعلنه(حسين شريعتمداري) رئيس تحرير جريدة كيهان القريبة من النظام بقوله(انه لم يكن معترضا على مبدأ الحوار بل على الليونة في الموقف الأيديولوجي من الشيطان الأكبر وإسقاط المحرمات في الحديث عن إمكانيات الحوار المباشر مع واشنطن ) وهو ما يعني مبدأ التنازلات التي تبدأ بتحجيم البرنامج النووي الإيراني وتقليص النفوذ الإيراني، وهذا ما يؤيده تيار المحافظين الذي يمثل الدولة العميقة في طهران وأكثر المنتقدين لمواقف الحكومة الرسمية ومعلوم أن الخطوات الإستراتيجية التي تبناها مجلس الشورى الإيراني بالعمل على زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم بحجة الحفاظ على حقوق إيران كان بتأثير وتأييد تيار المحافظين.
ورغم هذه المواقف إلا أن النظام الإيراني أقر حالة التفاهم مع رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووافق على عمليات الرصد والمتابعة ونشر كاميرات المراقبة في المواقع النووية والتفتيش من قبل محافظي الوكالة وتقديم المعلومات عن النسب الحقيقية التي تم تخصيب اليورانيوم فيها والقبول بإجراء التحقيقات في ثلاث مواقع سبق وأن طلبت الوكالة الدولية في منتصف عام 2022 بضرورة إجراء التحقيق الشامل فيها لوجود معلومات تؤكد تخصيب اليورانيوم فيها ، وهذا يعتبر موافقة واضحة من قبل الإيرانيين ومحاولة لفك حالة العزل السياسي ورفع مقدار من العقوبات الاقتصادية لأنه في حالة التوافق على أي حوار قادم وتحديد الأفق الإستراتيجية لإعادة إحياء اتفاقية العمل الشاملة المشتركة فإن النظام الإيراني سيتمكن وحسب تقارير البنك الدولي من تحريك عملية الاستفادة من الاحتياطات المالية البالغة 12,2 مليار دولار و 115,4 مليار معلقة وتعزيز وضعه الاقتصادي، ويؤكد ذلك البنك المركزي الإيراني بقوله (ان اي اتفاق سيحرر لنا 29 مليار ) واما باقي الأموال فهي اما تكون أموال مودعة في مصارف صينية مضمون لتحويلها لإنشاء مشاريع تجارية واستثمارية في إيران تجريها الصين بقيمة 22 مليار دولار، واستثمار المصرف المركزي في الشركة السويسرية (نفط إيران للتجارة الدولية ) التابعة لشركة النفط الإيرانية بقيمة 25 مليار دولار ، ثم أصول عائدة للمصرف في المصارف الإيرانية بقيمة 10 مليار دولار، إضافة إلى وجود 7 مليار في كوريا الجنوبية ومثلها في الهند و6 مليار دولار في العراق و3 مليار دولار في اليابان وما مجموعه 3_5 مليار في أوروبا.
هذه هي الأمور المهمة التي تسعى إليها طهران لكي تخفف عنها معضلة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها النظام وهي التي ساهمت في أحداث التغيير السياسي للموقف الإيراني كما جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بتاريخ السادس من آذار 2023 ( إن طهران توصلت إلی “تفاهمات جيدة” مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يمكن أن تكون أساساً لحل القضايا التقنية العالقة فيما يخصّ العودة للاتفاق النووي) .
تحاول إيران أن ترسل عدة رسائل عبر نتائج زيارة رئيس الوكالة الدولية بأنها ساعية إلى علاقات وطيدة وفتح مجالات التعاون مع الاقطار العربية وخاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي وزيادة حجم التعاون مع روسيا والصين لتعزيز موقفها في المحيط الدولي والإقليمي عبر اللقاءات التي قد تفضي إليها جولات الحوار القادم في العاصمة النمساوية فيينا، وأنها تدرك حقيقة امتناعها عن التعامل الإيجابي مع مفتشي الوكالة الدولية إنما يعني استمرار معاناة الشعوب الإيرانية وإضعاف النظام الحاكم سياسيا واقتصاديا وتهديد وجوده واستمراره في السلطة.
ستتابع الدول الاوربية باهتمام ما ستؤول إليه العلاقة بين إيران والوكالة وأطراف الحوار الخاص بالبرنامج النووي الإيراني لانه في حالة أي نجاح وتقدم في المفاوضات يعني أن النفط الإيراني الممنوع من التصدير سيكون جزءا من الإعفاءات حال الاتفاق على مبادئ جديدة ويعتمد هذا على المرونة التي قد تبديها الإدارة الأمريكية في تعاملها مع المتغيرات الإيرانية بوجود ضمانات تلتزم طهران في أي تعامل مستقبلي ، ويساعد هذا الجانب الحيوي على حل معضلة اقتصادية كبيرة وتحقيق منفعة ميدانية للجانب الأوربي بالحصول على النفط الإيراني والعودة للاستثمارات الاقتصادية والتبادلات التجارية وإنشاء المشاريع التنموية داخل إيران.
يبقى الهاجس الأمريكي الأوربي من قيام روسيا بالاستفادة من رفع العقوبات عن إيران باستخدام تصدير النفط الروسي عبر البوابة الإيرانية والاتفاق على العقوبات وهذا ما جاء في تقرير لمجلة( بوليتكو) الآمريكية حيث أشارت إلى توقيع مذكرة تفاهم بين موسكو وطهران بقيمة 40 مليار دولار غبر شركة ثمار لتطوير وإنتاج الغاز السائل في ستة مواقع مع تبادل الوفود الاقتصادية وشؤون الطاقة والخشية من قيام إيران باستيراد الخام الروسي لساحلها الشمالي عبر بحر قزوين ثم بيع كميات معادلة منه نيابة عن روسيا في ناقلات بحرية ايرانية تغادر سواحلها .
يبقى الاتفاق النووي فرصة لإيران لملئ الفراغ الذي خلفته روسيا في سوق النفط الأوربية واستعادة دورها في سوق الطاقة العالمي ورسم ملامح سياستها الداخلية والخارجية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية