توفر ردود الفعل السلبية المتزايدة على المستوى المحلي فرصة إستراتيجية لتغيير ميزان القوى في لبنان، وتقليص نفوذ إيران البعيد المدى، وتعزيز التنوع السياسي الحقيقي داخل المجتمع الشيعي.
يتفق الجميع على أن دور إيران ونفوذها في الشرق الأوسط تنامى بشكل كبير في العقد الماضي. فقد ازدادت قوتها الناعمة والعسكرية من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، كما عززت سيطرتها على المؤسسات الحكومية في هذه البلدان. وعلى الرغم من الدمار والانهيار الاقتصادي الذي أعقب ذلك، لا تزال القرارات السياسية والأمنية بيد إيران، وخاصةفي بلاد الشام.
ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة، ولكن بالتأكيد ليس لكون إيران أقوى من الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، وليس بسبب امتلاكها المزيد من الموارد. على العكس من ذلك، فالنظام الإيراني يدرك جيداً كيف ينتظر بصبر إلى أن يتم فتح المجال، فيقوم بمهارة بملء الفجوة بميليشياته والموارد القليلة التي يمكنه توفيرها.
ويعود سبب التفوق الإيراني إلى الفراغ الذي خلّفته القوى الغربية، ودول الخليج، والولايات المتحدة. فلم تعد سوريا ولبنان يشكلان أولوية بالنسبة إلى الغرب ودول الخليج، وبالتالي تَمَكن النظام الإيراني من غرس جذوره في بلاد الشام دون مواجهة عسكرية تُذكر نتيجة غياب الاهتمام السابق بالمنطقة، بل باستخدام خطاب معزز من التهديدات والترهيب. كما تَمَكن «حزب الله» من القضاء على فريق “14 آذار” في لبنان والمعارضة السورية في سوريا بسرعة وبعنف في ظل غياب الدعم من الغرب. ونظراً لعدم وجود سياسة مستدامة لمعارضة سيطرة طهران على هذين البلدين، فقد سقطت مؤسسات الدولة في حضن إيران بشكل سريع. واليوم يتمتع «حزب الله» بسيطرة أكبر على المؤسسات اللبنانية لمجرد عدم وجود منافسين، وبالتالي لا يتم محاسبته على جرائمه.
إن الفجوة بين وجهات النظر الغربية والمحلية تجاه إيران مثيرة للاهتمام. فقد أصبح واضحاً لشعوب المنطقة أن قوة إيران واستعدادها للتصرف مبالغ فيهما في الغرب. فبعد تعرض إيران لسنوات من العقوبات والتحديات العسكرية، أضاعت الكثير من الفرص للرد على الاعتداءات على مصالحها، لا سيما في سوريا. وهي غير مهتمة، رغم الخطاب الذي يصدر عن طهران، بمواجهة الغرب عسكرياً. وبدلاً من ذلك، كان وكلاء إيرانمنشغلين باستخدام أسلحتهم في الداخل ضد المعارضة والمنشقين.
التصدي لإيران في بلاد الشام – «حزب الله» كمثال
على الرغم من تراجع التركيز على هذا القسم من المنطقة والاهتمام بها، هاجم الغرب إيران بضراوة عندما قرر التصرف، ونادراً ما تَطابق الرد مع التهديدات والسيناريوهات التي يصفها النظام عادة. وفي العقد الماضي، كانت هناك أربعة أمثلة رئيسية تم فيها ضرب إيران على أوتارها الحساسة وهي: تصعيد العقوبات الأمريكية على النظام، واستمرار الضربات الإسرائيلية ضد المنشآت العسكرية الإيرانية في سوريا، وقتل قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني قاسم سليماني، والعقوبات الأمريكية ضد حلفاء «حزب الله» في لبنان. وكان رد إيران على جميع هذه الإجراءات أقل بكثير من المتوقع، خاصة بعد مقتل سليماني، الذي كان العقل المدبر وراء كل مساعي النظام في المنطقة.
ولا تزال إيران ووكلاؤها في المنطقة، وأبرزهم «حزب الله»، متأثرين بهذه الضربات التي تسببت في تقييد الميزانية، وتراجع الاستعداد العسكري، وقلة الرغبة في الحرب. أما في لبنان فقد قرر «حزب الله» توقيع اتفاق مع إسرائيل بشأن الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، لأنه يدرك أيضاً أنه سيكون الخاسر في حال نشوب حرب أخرى.
وبدا أن «حزب الله» قد أدرك أمرين مهمين بعد حرب عام 2006، وهما: أن التهديد بصواريخه وطائراته بدون طيار يمكن أن يحقق أكثر مما يمكن أن يحققه استخدام تلك الأسلحة، وأن حرباً أخرى يمكن أن تؤدي إلى عواقب أسوأ على الحزب من تقديمه تنازلات لعدوه اللدود. علاوةً على ذلك، تراجعت نوعية قوته المقاتلة بسبب مشاركته اللاحقة في الحرب السورية، الأمر الذي دفعه إلى اختيار الكمية على النوعية عند تجنيد مقاتلين جدد. ونتيجة لذلك، أصبحت العديد من وحدات «حزب الله» حالياً أقل تدريباً وأقل أيديولوجية وأقل انضباطاً من ذي قبل، لذا سيحتاج الحزب إلى مزيد من الوقت والموارد والتمويل لتجنيد هذه الوحدات للحرب. وفي الوقت نفسه، لن تكون إيران، الراعية الرئيسية لـ «حزب الله»، في وضع مالي جيد لتمويله أو إعادة بناء جيشه وترسانته ما لم يتم كسرالجمود بشأن الاتفاق النووي.
لكن هذا لا يعني أن الحزب سيحد من جهوده لشراء الأسلحة على أقل تقدير. فعلى الرغم من التحديات العسكرية والسياسية المتزايدة، تمكن «حزب الله» من تطوير العديد من القدرات الجديدة منذ عام 2006، حيث قام بتجميع المزيد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بالإضافة إلى الصواريخ الدقيقة القادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية الإسرائيلية الحيوية مثل المطارات ومنشآت المياه و محطات توليد الكهرباء. وفي الوقت نفسه، يدرك الحزب جيداً أن مطاردة مثل هذه الأهداف في الواقع ستؤدي إلى رد إسرائيلي قاس.
ومع ذلك، فبدون وجود سياسة أمريكية شاملة ومستدامة فيما يتعلق بـ «حزب الله» ولبنان، بإمكان الحزب أن يتغلب على الكثير من هذهالتحديات. وبما أن الوكيل الرئيسي لإيران في المنطقة يواجه تحديات عميقة داخلياً وعسكرياً، فقد يكون من الحكمة أن تغتنم واشنطن الفرصة لإضعاف ركائز قوة الحزب وحلفائه وقواعده واقتصاده وزعزعتها.
هل حان الوقت لاتباع سياسة جديدة؟
حتى الآن، ركزت سياسة الولايات المتحدة تجاه لبنان على المساعدات الأمنية والإنسانية، إلى جانب العقوبات ضد «حزب الله» وعدد قليل من الحلفاء. لكن لم يكن هناك استثمار جدي في مبادرات القوة الناعمة التي من شأنها أن تستهدف على وجه التحديد سردية «حزب الله» وبرامجه.
وهذا يتضح من خلال الأرقام: فقد تجاوزت قيمة المساعدات الأمريكية للبنان منذ عام 2010 4 مليارات دولار. وخُصصت هذه الأموال لدعم الأجهزة الأمنية في لبنان، والاحتياجات الاقتصادية، والحكم الرشيد، وتحسين الخدمات العامة الحيوية مثل المياه والصرف الصحي والتعليم. وقدمت واشنطن أكثر من ملياري دولار من المساعدات الأمنية الثنائية لـ “الجيش اللبناني” منذ عام 2006، و 2.3 مليار دولار من المساعدات الإنسانية منذ عام 2011، عندما بدأت الحرب الأهلية السورية، معظمها لدعم اللاجئين والمجتمعات المضيفة. بالإضافة إلى ذلك، فمن خلال “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” قدمت واشنطن مساعدة فورية بقيمة 41.6 مليون دولار أثناء وباء كوفيد-19، و 18 مليون دولار كمساعدات إنسانية في أعقاب انفجار ميناء بيروت في آب/أغسطس 2020، والتي شملت أكثر من 15 مليون دولار من دعم “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” لجهود الاستجابة للطوارئ. وبشكل عام، تُعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة مانحة للبنان إلى حد بعيد.
ولكن إيران تتبع استراتيجية مختلفة. فبدلاً من الاستجابة الفورية للأزمات، تستخدم المساعدات كأداة من أدوات القوة الناعمة لترسخ جذورها في تربة من الموثوقية والمصداقية والاتساق، مدركةً أن القوة الناعمة تغذي الجذور ومن الصعب عكس مسارها من خلال الحروب أو العقوبات. والسبب الوحيد وراء تحول الديناميكيات بين «حزب الله»والمجتمع الشيعي في الوقت الحالي هو أن أدوات القوة الناعمة هذه تواجه بعض التحديات.
ويُعدّ المجتمع الشيعي التحدي الأول لـ «حزب الله» في لبنان اليوم. فما شكل في يوم من الأيام أساس قوته بدأ يضعف، إذ أصبح الكثير من الشيعة يشككون في الأجندة الحقيقية لـ «حزب الله» بعد احتجاجات عام 2019 في لبنان والجهود الواضحة التي يبذلها الحزب لحماية المؤسسات الفاسدة، بينما يواجه المتظاهرين بعنف. ولكن لا يزال الشيعة عاجزين عن اللجوء إلى جهة أخرى دون وجود بدائل حقيقية، لا سيما بدائل اقتصادية. وهنا يمكن أن تكون سياسة الولايات المتحدة مفيدة من خلال إيجاد بدائل اقتصادية للمجتمع الشيعي خارج مؤسسات «حزب الله» وتلك التابعة للدولة اللبنانية. كما أن القطاع الخاص اللبناني يمكن أن يكون شريكاً أفضل.
وشكّل توقيع اتفاقية الحدود البحرية مع إسرائيل فرصة عظيمة لإظهار ضعف الحزب واستعداده للتوصل إلى حل وسط مع إسرائيل. ومن المهم جداً الحرص على عدم استفادة الحزب وحلفائه من عائدات الغاز.
ومن جهة أخرى، يبدو أن الركيزة الأخرى التي يستند إليها «حزب الله»، أي حلفاؤه، تتزعزع بدورها. وتسببت العقوبات الأمريكية المفروضة على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل واحتجاجات عام 2019 في خسارة باسيل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أيار/مايو 2022. ولم يعد “التيار الوطني الحر” حليفاً مسيحياً قوياً لـ «حزب الله» وبالتالي يمكن التخلي عنه. كما خسر الحلفاء الآخرون للحزب من السنة والدروز والمسيحيين في الانتخابات في جميع أنحاء لبنان، تاركين «حزب الله» مع “حركة أمل” التي يتزعمها نبيه بري، حيث سينتهي هذا التحالف بعد وفاة بري. إن فرض المزيد من العقوبات ضد حلفاء «حزب الله»والعناصر الداعمة له داخل مؤسسات الدولة أمر ضروري اليوم للحد من قوة الحزب. كما من الضروري معاقبة جميع أولئك الذين يعرقلون الإصلاحات، ويسمحون بالتهريب على طول الحدود مع سوريا، فضلاً عن أولئك الذين يعرقلون العدالة والمساءلة في لبنان.
ويشكل الضعف الحالي لـ «حزب الله» فرصة استراتيجية لتغيير توازن القوى في لبنان، وتقليص نفوذ إيران بعيد المدى، وتعزيز التنوع السياسي الحقيقي داخل المجتمع الشيعي. وتزداد إيران قوةً ونفوذاً في المنطقة منذ أربعين عاماً، وعلى الرغم من إمكانية تفاخر النظام الإيراني بسيطرته على أربع عواصم في المنطقة، إلا أن بلدان هذه العواصم نفسها (العراق ولبنان وسوريا واليمن) قد انهارت، اقتصادياً وسياسياً. وخلال أربعين عاماً، لم تضطر إيران ووكلائها لمواجهة تحديات من هذا النطاق.
وفي موازاة ذلك، أدركت شعوب هذه الدول الأربع أن العدو موجود في الداخل وأن إيران ووكلائها لم يعودوا قادرين على توفير الحماية أو الدعم. والجدير بالذكر أن “المقاومة”، وفقاً للصورة البطولية التي كونها «حزب الله» عن نفسه، قد حوّلت (مسارها) من خلال توجيه أسلحتها ضد شعبها. وينطبق الأمر نفسه على جميع أنحاء المنطقة: فأينما تتنتصر إيران عسكرياً وتتسلل إلى الدولة، يؤدي ذلك إلى وقوع فوضى. فمن العراق إلى لبنان، أصبح من الواضح أن الشعوب، من بينها الطائفة الشيعية، لم يعد بإمكانها تحمل القوة الإيرانية.
بإمكان إيران و«حزب الله» التخلص من هذه الصعوبات، لكن الدول الأربع المذكورة أعلاه لن تتعافى منها. ولضمان احتواء إيران ووكلائها ومواجهتهم بشكل أكبر، ولمساعدة الدول الأربع التي يحتلونها على التعافي وإعادة بناء مؤسسات الدولة الخاصة بها، يجب على الغرب أن يفعل ما تفعله إيران عادة. فالولايات المتحدة تمتلك الموارد اللازمة والقوة الدبلوماسية لسد الفجوة التي خلّفتها إيران بمبادرات القوة الناعمة، وفرض عقوبات ضد الفاسدين والحلفاء بشكل متكرر، ووضع آليات للمساءلة، والاستثمار في سياسة أكثر استدامة وثباتاً.
حنين غدار
معهد واشنطن