يعلق ترامب على الاتفاق السعودي الإيراني قائلا، إننا لم نعد نقود العالم في عهد بايدن، «هذا ما نراه بعد أن قامت السعودية بعقد اتفاق مع إيران، برعاية الصين وليس الولايات المتحدة، من كان يتصور ذلك؟». أما هنري كيسنجر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم فعلق في السياق نفسه: «على المدى الطويل، فإن ظهور بكين كصانعة سلام يغير شروط المرجعية في الدبلوماسية الدولية، فلم تعد الولايات المتحدة القوة التي لا غنى عنها في الشرق الأوسط – الدولة الوحيدة القوية أو المرنة، بما يكفي للتوسط في اتفاقيات السلام، لقد أعلنت الصين في السنوات الأخيرة أنها في حاجة إلى أن تكون مشاركا في إنشاء النظام العالمي، والآن قامت بخطوة مهمة في هذا الاتجاه».
أما الصحافي الأمريكي ديفيد أغناتيوس فقد كتب في صحيفة «واشنطن بوست»: «الصينيون انتهازيون، لقد استفادوا من الجهود الدؤوبة لأمريكا لدعم السعوديين (من دون شكر من السعوديين طبعا) في مقاومة وكلاء إيران في اليمن والعراق وسوريا، لقد بنت أمريكا طريق التقارب، لكن الصينيين قصوا الشريط».
دول المنطقة الحليفة لواشنطن أيقنت أن أمريكا لم تعد قادرة على دعمها في مواجهة حلفاء إيران وروسيا
هكذا إذن، قص الصينيون الشريط بدل الأمريكيين، لماذا؟ ببساطة لأن دول المنطقة الحليفة لواشنطن، أيقنت ولو متأخرة كالعادة، أن أمريكا لم تعد قادرة على دعمها في مواجهة حلفاء طهران وروسيا، كما كانت في العقود الماضية، فالخصم الإيراني لم يعد لقمة سائغة، وباتت تكلفة مواجهته أعلى من أرباحها، تدرعت إيران بحلف دولي من الصين حتى روسيا، وحلف محلي مترابط يطوق دول المنطقة الحليفة لواشنطن، مكون من شركاء الحرس الثوري، من القوى الشيعية وفروعها العلوية والحوثية من بغداد حتى دمشق وبيروت وصنعاء، الذين لديهم أسبابهم المحلية القديمة للتنازع مع جيرانهم السنة، وخاضوا نزاعات مذهبية قبل حتى وصول الخميني للحكم في طهران، عندما كان الخميني يتلقى مساعدات مالية خلال لجوئه إلى حوزة النجف في العراق، وعندما وصلنا إلى عام 2019، وقت توجيه ضربة لمنشأة النفط السعودية في أرامكو/ بقيق، التي اعتبرت بمثابة إعلان تحد من طهران في مواجهة دول المنطقة المتحالفة مع واشنطن، لكن الرد الأمريكي جاء باهتا، على الرغم من أنه حصل في عهد حليف الرياض الأقوى ترامب، حينها أيقنت الرياض من أن نجم أمريكا في أفول، وأن عهد الاتكال على حمايتها ولى، وأن عليها البحث عن منظومة جديدة بديلة، ونسج علاقات تقيها شر ضربات شبيهة بضربة أرامكو، وطبعا كانت الوجهة الأقطاب الدولية الصاعدة في وجه واشنطن، موسكو وبكين، لكن هؤلاء هم أنفسهم حلفاء طهران الذين اعتمدت عليهم إيران لعقود في بناء منظومة إقليمية جديدة مناهضة لنفوذ واشنطن في المنطقة! فأمطرت الغيوم على أرض بلاد فارس مجددا!
تأخرت دول المنطقة المتحالفة مع واشنطن كثيرا في إدراك تغيرات توازن القوى في العالم، وفي المنطقة، وأدى اتكالها على واشنطن في خسارتها لكل ما بنته من نفوذ بالتعاون مع واشنطن لعقود، في كبرى عواصم المشرق العربي، ومنذ سقوط النظام العراقي قبل عشرين عاما، جرت معارك طاحنة سياسيا وعسكريا، بين قوى حليفة أو مقربة من واشنطن وحليفتها الأكبر السعودية، والقوى الشيعية الموالية لطهران، انتهت بهيمنة مطلقة لحلفاء طهران في صورة غير مسبوقة منذ بدء النزاع السني الشيعي قبل قرون، لدرجة أن أقلية كالحوثيين أحكمت قبضتها على عاصمة اليمن، على الرغم من حرب ضروس تشنها السعودية بدعم أمريكي استخباراتي منذ سنوات، وفي خاصرة بالغة الأهمية جيوسياسيا للسعودية. هذا الواقع الذي يؤشر إلى خسارة الرهان على القوة الأمريكية، باتت نتائجه ماثلة للعيان أكثر من أي وقت مضى، بعد ضربة أرامكو/بقيق عام 2019، التي أوقفت إنتاج نصف النفط السعودي، واعتبرت إعلانا لاكتمال التحول الفارق في توازنات المنطقة، وأعتقد أن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية بكين، ما هو إلا «تشييع» للنفوذ الأمريكي في المشرق العربي، الذي دخل مرحلة الوفاة السريرية مباشرة بعد الورطة التي علق فيها الأمريكيون بعد غزو العراق، إذ أخفق الأمريكيون وتحول مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الجديد إلى الشرق الأوسط الإيراني.
القدس العربي